عندما كان هذا الرجل الهادئ، شديد الهدوء الضاج كما العاصفة، يقيم بمدينة كسلا، كانت المدينة في قمة نضجها الثقافي، فهنالك جماعة اولوس الأدبية برئاسة الشاعر الكبير كجراي، واتحاد أدباء كسلا وعلى رأسه الشاعر حسان أبو عاقلة أبو سن، وكان هنالك القاص الماهر مبارك ازرق، بكل حكاياته الجميلة ومسرحياته، البدر حسين رحمة، وهو أول رئيس لرابطة اولوس، الأستاذ الناقد جابر حسين، والشاعر والناقد وأول متخصص في سيناريو الفلم الوثائقي بالسودان الأستاذ بابكر محمد النور، وكان هنالك الأديب والمثقف حسونة بدوي حجازي، والشاعران إبراهيم نايل وكمال عبد الحليم وغيرهم من أساطين الأدب والثقافة بالسودان. تعرفت على اسمه من خلال أستاذي حسن علي سر الختم، وهو من مثقفي وشعراء الشكرية، وكان يحتفظ بقصائده يقصها من الجرائد والمجلات، وكان مهتماً جداً بأبحاثه، وهو أيضا أول من أخبرني بأن الشاعر ديشاب يعد قاموساً فريداً عن شعراء البطانة. وعلى الرغم من تواجدي بمدينة خشم القربة، وهي قريبة جداً من مدينة كسلا، إلا أنني لم أقابله وجهاً لوجه، إلا عندما ترك كسلا وسافر إلى قريته في حلفاالجديدة وهي القرية 16، وكنت في ذلك الحين اعد كتاباً بالمشاركة مع الأستاذ ميرغني الطاهر عن الشاعر البوادري المدني عبد الله الكردوسي، فذهبت إليه في القرية ذات مساء، ورحب بي جداً وتحاورنا في الموسيقى الفريدة للشاعر الكردوسي، وكان يرى ديشاب أن الأوزان التي كتب بها الكردوسي شعره لم تطرق في الشعر العربي كله ولا عند شعراء البطانة السابقين له، وكان هذا ما يجعله متفردا وأصيلا وجميلا. ودار بنا النقاش في مسادير الصيد عند شعراء البطانة وهو أيضا كتاب جميل يعده ديشاب، ودهش عندما أخبرته بان الكردوسي له أيضا مسدار صيد رائع، ثم أخذت أزوره في قريته وفي بيته الكريم بصورة متواصلة إلى أن سافر إلى وادي حلفا واختبأ نهائيا ولم يخرجه من قمقم عزلته المأهولة بالنصوص سوي مأمون التلب. يخص موضوع بحثه ميرغني ديشاب باحث ملتزم ودقيق جدا، ويغمرك شعور وأنت تقرأ كتبه بأنه قد أحاط بكل شيء فيما ، ويثير في نفس القارئ أسئلة عميقة، مثلا في كتابه النوبة في عامية السودان العربية، فهو يبدو وكأنه حصر للمفردات والألفاظ النوبية في عامية السودان العربية الحية، ولكن السؤال الخطير الذي يكمن وراء ذلك، وقد لا تجده في المبحث إطلاقا: أيهما حل محل الآخر؟ وهذا مثل سؤال البقع السوداء التي على فرو القط، والتي هي الأصل، ولو إنها ظهرت كبقع، بالتالي يتحول العنوان ليصبح هكذا: ما تبقي من لغة النوبة في لغة التواصل اليومية بالسودان. فاللغة في رأينا المتواضع ليست الألفاظ القاموسية، ولكنها أيضا أسلوب تكوين الجملة، والأصوات المصاحبة وطريقة التلفظ أيضا، بالإضافة إلى حمولاتها الجمالية والقيمية، والحديث يطول هنا.