العداء بين المياه والإنسان حالة استثنائية ولكنها تجسدت في الصراع الذي كابده أهالي أرياف محلية شندي مع السيول التي بدلت أمنهم خوفاً وهي تقتحم بلداتهم نهاراً ويتضاعف مد هديرها ليلاً ليغطي مساحة (75) كلم من مساحة السكن والزرع بارتفاع يفوق (100) سم فيتحول الإنسان إلى كائن برمائي لا يمكنه ممارسة نشاط حياته المحدود في هذه الظروف بدون مخالطة المياه التي طغت على اليابسة بالدرجة التي أصبح معها تدبير موطئ لإشعال نار الطبخ، إذا توفر ما يُطبخ، يتطلب جهداً. رى بأكملها تحولت إلى جزر معزولة خاضت ولمدى ستة أيام، ومازالت، حرباً ضد جحافل المياه الغازية لحماية الأطفال والنساء وعرض من الدنيا قليل استبسل فيها شباب وكهول وشيوخ تلك القرى يذودون عن حماهم والزاد في بطونهم قليل ولكنهم يستعينون على ذلك بحماسة ونخوة موروثة، يصارعون مد السيول العاتية بسواعدهم وأدوات محدودة الكفاءة، فيكسبون الجولة بتأمين سلامة فلذات الأكباد والعجزة، ويُعمل الغازي أمواجه في بنيان البيوت المرصوص فيحيلها خراباً ولما يزل يتربّص ببعضها الآخر وينتظر مدد الأمطار فيما يرجو الأهالي أن ينصرف عنهم. حينما وصلنا إلى مدينة شندي، بدعوة من حكومتها، حطّت رحالنا بمقر المحلية وفوراً كنا حضوراً لاجتماع غرفة الطوارئ برئاسة المعتمد اللواء ميرغني أحمد عبد الله عكود الذي قال للصحفيين إن الوضع مستقر لكن تدفق الأمطار والسيول فاق كل التنبؤات، بحسب تقارير الدفاع المدني، والمياه فاقت احتمال المصارف ولم تحتملها المنازل وامتدت الأضرار للطريق القومي، وأشار إلى إجراء بعض المعالجات. ووجّه عكود بمباشرة غرفة الطوارئ للعمل على مدى (24) ساعة إلى جانب تكوين لجان فرعية لحصر الخسائر واتخاذ القرار في مد المتضررين بالمعينات. وحول المعالجات الفورية توفرت، بحسب المعتمد، آليات لتوسيع المصارف مع التوقعات بهطول المزيد من الأمطار. وأضاف المعتمد أن والي ولاية نهر النيل الفريق الهادي عبد الله باشر ترتيبات تصريف المياه لنهر النيل وعمل السدود الواقية ووجّه مدير الإدارة العامة للشؤون الهندسية بإنجاز المهمة. خطة وقائية لتفادي الآثار الصحية للكارثة كُوّنت من المختصين بالمحلية إلى جانب موفدين من الصحة الاتحادية لتغطية المسطحات المائية بمبيدات الرش الضبابي وهناك اتجاه لاستجلاب طائرات للقيام بذلك. الخيام والأغذية وطلمبات سحب المياه تمثل أهم احتياجات المحلية لمواجهة الموقف المتأزم الذي تضرر منه (2450) منزلاً ما بين ضرر كامل وآخر جزئي فضلاً عن انهيار خمس مدارس بالكامل. خلال التطواف الذي نظمته المحلية للمسؤولين وأعضاء الوفد الصحفي وصلنا إلى قرية «هبينا» وقابل المواطنون الوفد بسيماء الغضب وأبدوا زهدهم في الزيارة وانتقدوا المسؤولين المرافقين تعنيفاً احتجاجاً على عدم مد يد العون لهم طيلة الأيام السابقة التي أعقبت السيول، كما أن بعض الشباب حذّر مصوري الفضائيات من تصوير القرية وهددوا باستخدام القوة لمنع ذلك ظناً منهم أن هناك مساعدات ستأتي باسمهم ولكنها لن تصلهم، إلاأنهم اذعنوا لرغبة الآخرين في نقل ما حلّ بهم. كان جُل المتجمعين من أهل القرية يتحدثون بلسان واحد: «لم يزرنا مسؤول.. شرابنا مياه السيل.. طعامنا الصبر.. سبعة أيام ونحن على هذه الحال». المواطن عبد الله سليمان أخذني في جولة داخل القرية وأخبرني أن منازله تهدمت جميعها وأن عدد المنازل المنهارة تجاوز (600) منزل، لاسيما في الجانب الجنوبي من القرية. إحدى النساء كانت تشكو بمرارة وصرخت في وجه المسؤولين: «اذهبوا لا نريد كذباً». وفي الوقت الذي كان يعايش فيه هؤلاء الإحساس بالحرج ويحاولون جهداً إقناع المواطنين بأن الأمر محل اهتمام متعاظم من قبل الحكومة؛ وصلت إلى القرية شاحنتين عسكريتين تحملان مؤناً غذائية وخياماً. واتفق الشاب عماد الدين سلمان من مواطني المسيكتاب العُشرة مع ما ذهب إليه سابقوه وقال ل «الأهرام اليوم»: «على مدى ستة أيام لم نعرف إلى النوم سبيلاً، نخوض في المياه لمسافة (4) كلم ونعود نحمل الدقيق على ظهورنا ونحن نخوض في المياه.. نشرب من المياه التي اختطلت بمياه الصرف الصحي.. لا توجد مخيمات ولا مشمعات.. لم يصلنا مسؤول.. كان معنا رجال الدفاع المدني وبذلوا مجهوداً خارقاً شعرنا أن المنازل المحاصرة بالمياه منازلهم وأن الأهل أهلهم». سألته عن زيارة الوالي لهم، قال: «جاء في اليوم الخامس ووقف في طرف القرية وحين وصلنا وجدناه غادر»، وأضاف: «إننا اشترينا جوالات الخيش لعمل الردميات وأجرنا «لودر» بجهدنا». وختم حديثه نتخوف من وقوع كارثة بيئية. نائبة الدائرة بالمجلس الوطني «الدكتورة أماني عبد الرحمن» ناشدت كل المنظمات والمؤسسات التدخل لإنقاذ الموقف الذي يفوق إمكانيات الولاية، وأشارت إلى أن إحاطة المياه بكل الاتجاهات يجعل الوصول لبعض القرى صعباً. أمينة أمانة المرأة بالمؤتمر الوطني بالمحلية أعلنت أن فريقاً من الأمانة ظل مرابطاً مع المتضررين وقدم بعض الوجبات وأشارت إلى دعم وصل من منظمة أم الفقراء التي ترأسها حرم نائب رئيس الجمهورية. يذكر أن المناطق التي طالها الضرر هي: «الموسياب، المسيكتاب، القوز العشرة، هبينا، العوتيب، العروس، العبابدة، الجوداب الفكي صالح، الرافداب السلمة بحري، العطالاب، المديناب، بئر الباشا، الرحماب، الدليج، الرحماب المجاديب، أبو الحسن أم القرى البرياب أبو التاي العبابدة المرخياب وادي الدومة القصيراب العبدلاب الدويناب المصلحة الكافنجا حلة عمر منطقة الخلاوى الوقيعاب، أبو طليح الصمدية طماحة، السلمة». وحتى يوم السبت الماضي لم تصل أي من المنظمات الطوعية إلى المناطق المذكورة، بخلاف منظمة البر والتواصل ممثلة في مديرها العام نفيسة عبد الرحمن التي رافقت الوفد الذي طاف على بعض القرى وقدمت عوناً غذائياً وإيوائياً للمتضررين.