{ جثت على ركبتيها تصرخ فى وجهه، تلملم حزنها وخيبتها فيه وتدفن آمالها وأحلامها فى رجل خرج من أحشائها يطلق صرخته الأولى قبل ثلاثين سنة قضتها تكابد حياة قاسية وقد رحل رفيق دربها قبل تلك الصرخة بأيام، عاشت حياتها يتنازعها رجلان؛ رجل عشقته وتزوجته ورحل ورجل أنجبته وأنبتته ورعته حتى شبّ عن الطوق رجلاً فى مقام رجل راحل هو أبيه وما بين الأب والابن تجربة قلب وحكمة عقل وتقلبات حياة تشيح وتقبل وماض يشرق وحاضر يغرب ومستقبل ترتاده الهواجس بسبب الابن والذكريات لعزيز لم تزل تطرق بقوة. هى امرأة متنازعة فى كل شيء؛ قلبها يحتمل ذكرياتها مع الأب بجانب عذاباتها مع الابن وعقلها يركن الى مثالية رجل هو الأب بجانب صورة قميئة لرجل هو الابن وتقلبات الحياة عاشتها سنة حلوة فى مواجهة ثلاثين سنة قاسية ومريرة والمستقبل داست عليه بركبتيها وهى تصرخ فى وجه ابنها بجانب إرادة قوية سكنت جسدها وروحها وحياتها منذ أن رحل عنها زوجها وماضٍ يبدأ قبل ثلاثين سنة مع الأب ويمضى مبتعداً عن الثلاثين القاسية التى عاشتها مع الابن وكأنها تجنب الماضى مأساة ابنها معها، فالماضى مازال حلواً فى مخيلتها واعتقادها وتجربتها مع حبها الأول والأخير. { تحفظ للرجل صورتين؛ صورة الأب وصورة الابن وقد كانت تحلم بصورة واحدة.. ابن مثل أبيه وحياة واحدة لا يقطعها الانتقال رغم مرارته وفداحته، وكانت تحلم بصورة واحدة للمرأة، تحلم بفتاة مثلها، يعشقها ابنها ويتزوجها وينجبان طفلهما الأول، طفل مثل أبيه الابن. الابن الذى تصورته وأنفقت فيه طاقة عزيزة من حياتها ومن جسدها ومن روحها ومن آمالها وأحلامها فيه، ليس الابن الذى تصرخ فى وجهه الآن.. رسمت للرجل صورة زاهية خرجت من بين ثنايا الأيام والليالى التى جمعتها بزوجها، لم ترسم صورة لرجل من قبل، حتى أبيها كانت تنظر إليه بحياد، إسقاطات ابنها على تلك الصورة الزاهية للرجل لم ترغم وجدانها وعقلها على التراجع ولكنها أضافت صورة أخرى على النقيض تماماً وعززت حاستها المطلقة فى التمييز بين صورة وأخرى رغم كثافة التفاصيل ومسيرة الأيام الطويلة والليالى. { أسهرت لياليها وكابدت نهاراتها تصنع من ابنها مثالاً، أفرغت فيه كل مبادئ التربية وزرعت فيه قيم وأخلاق أبيه ونهض طفلها كما أرادت وتناقلته الألسن ولاحقتها عبارات الثناء، رفضت كل مشروعات الزواج التى عرضت عليها وتفرغت لمشروع واحد هو أن تتصل حياة زوجها فى حياة ابنها وأن تتصل حياتها فى حياة ابنها وزوجته، هذا هو حلم حياتها. أن تستمر تلك الحياة التى عاشتها رغم رحيل زوجها. حياة تستقبل وتستكشف بها القادم من الأيام والسنوات وكأن زوجها يعيشها معها ولكن أفسد الناس من حولها حلمها فى ابنها، اكتشفت بعد سنوات أنها لم تكن تربى ابنها وحدها، الناس من حولها يربون معها. المعارف والأقارب والشارع والعابر ورصفاؤه من الأطفال كلهم يربون طفلها معها.. فشلت كل محاولاتها لتربيه وحدها، ومع الأيام بدأ طفلها يخرج عن النص.. عن الحلم.. حتى بات يضربها.