• لعشر سنوات تحتمل قسوة الأيام والليالي، تهدهد حظها البائس لينام حتى يتركها تفرح، مات الزوج في منتصف الطريق وحولها ثلاث فتيات ورابع في أحشائها، أطلقت عليه اسم أبيه كما اعتاد الناس في مثل هذه الحالات، بكت زوجها كما لم تبك الأرامل من قبل، بكته دما ودمعا وشعرا ونثرا وحبيبا وأخا، بكت أبناءها وأحشاءها التي تحمل قادما لن ينتظره أحد سواها، بكت ذكراه معها وتذكاره داخل قلب عشقه وعقل ميزه واختاره من بين عشرات الراغبين في عشرتها ومودتها وسكنها ورفقة دربها، تقدم لها جميع أصحاب الجولة الأولى من الخطاب يعيدون الكرة مرة أخرى، ولكنها تستعصم بأبنائها وصبرها وفقرها وعذابات فؤادها وهي تعيش حياة الحزن مع الراحل المقيم وتعلم أن الطريق طويل والناس من حولها يلفهم لؤم وجبن لا يستثني حتى الأقارب والمعارف ورفاق درب العزيز الغائب، الناس من حولها دفنوها هي وأبناءها يوم رحل عنها زوجها إلا من خاطب تحمله غريزته فيطرق خلسة ويلوذ فرارا حين تصده قبل أن تدركه عين تراقب وأذن تسترق. • أطبقت عليها ليلة لم تعهد حرارة حزنها من قبل، تجاوزت أحزان السنوات العشر وحزن ليلة الرحيل، بدأت ليلتها الحزينة مثل كل الليالي، ينام الصغار بعد عسر شديد وهم يتضورون من الجوع وهي تخفي دموعها وتكتم بكاءها حتى لا يطيل ساعة الجوع على أبنائها وتحرمهم النوم، وما إن يناموا ترسل بصرها إلى السماء ساعة كاملة تقلب نجومها وتطارد قمرها بنبضات قلب هزمته الحياة وأرهقته، لا يفلت منها القمر إلا حين تغمر دموعها عيونها وتعجز عن إبصاره فيهرب، وفي هذه اللحظة تحديدا ينهض طفلها ابن التسع سنوات مذعورا من نومه، تقفز من سريرها وتنكب عليه وجلة، تسقط قطرات من دمعها عليه وتبلله، الطفل يتحسس الدمع بيده، يرفع رأسه متأملا وجه أمه فتغمره دموعها وقد عجزت لأول مرة أن تحبسها، انفجرا معا في موجة بكاء حار، أطلقت صوتها لأول مرة طيلة السنوات العشر، الطفل يبكي كما يبكي الكبار وقد أدرك حملها من الحزن وقلة حيلتها في هذه الحياة القاسية، الأم تكاد تبتلع طفلها والطفل يخترق حضنها حتى أحاط به، وتتصاعد موجة البكاء.. تنهض إحدى فتياتها فتدرك المشهد فتنزل أسرع دموع عرفتها البشرية وتسرع نحو هذا العناق الحزين فترمي بجسدها ودموعها وبكائها وحزنها داخل عناق فريد من المشاعر والأحزان وجمال النفس البشرية حين يغسلها الدمع في مقام الأب الغائب ورفيق الدرب والحبيب، العناق وحده هو ما يحمل الآخرين ليلحقوا بالأم المكلومة وطفلها وابنتها حين يشدهم سر هذا العناق وقاسمه المشترك بينهم فتنهض الفتاة الثانية وتنضم والثالثة وتنضم ويتحد موكب الحزن النبيل في وجه الرحيل والجوع والعزلة دون أن تعبر الأصوات الباكية أسوار منزلهم. • سكتوا عن البكاء والعناق حين جفت مآقيهم وغشيتهم طاقة الرحمة وطرقت على عناقهم الحزين ومضة فرح استثنائي وسعادة وراحة ما ألفوها من قبل، كأن عناقهم أحاط بالراحل العزيز (الأب والحبيب)، فرأى الابن أباه وصافحه وعانقه وقبّله والفتيات الثلاث رسخت في قلوبهن ملامح الأب الراحل أما رفيقة دربه وحبيبته ومثاله في النساء فقد غسلت هذه الساعة الاستثنائية حزنها وهي تشعر بحبيبها يهمس في قلبها قبل أذنها بكلمة السر التي رحلت معه فاستعادتها وأشرقت قبل أن تدركها شمس يوم جديد ونهضوا جميعا يستقبلون حياة جديدة، دون أن يتفوه أحد بكلمة، هكذا عاشوا حزنهم واستمدوا منه طاقتهم وإرادتهم وعزيمتهم وابتسامتهم من داخل تلك الأحزان السودانية المعتقة وهي تحتفي بأعزاء غابوا عن دنيانا وتركونا نمارس الحزن عليهم من داخل حياته حتى نفرح.