لكن دعوني أبدأ من هناك، كان الدكتور عصام أحمد البشير يومها وزيراً للإرشاد والأوقاف، لما سرت بعض الترشيحات بأن الرجل سيغادر مقعد الوزارة، ولقد ذهبت يومئذ لأحرر مقالات ناصعة بأن يبقى الرجل واجهة للمشروع الإسلامي، وذلك لكونه معروفاً على المستويين الإقليمي والعالمي، فتعرفه كل المنابر والواجهات والفضائيات والمجتمعات والمجمعات، بينما كل كوادرنا الآخرين، ومع احترامنا لمصداقيتهم ونواياهم، إلا أنهم موغلون في المحلية، ولم يسمع بهم أحد، وأنهم يصلحون لأشياء كثيرة داخلية، وأن مشروعنا الإسلامي يفترض أنه مشروع عالمي، إذن والحال هذه، يحتاج إلى عنوان ناصع وكبير، وأن هذا العنوان هو عصام البشير، مع مقدرة الرجل وعبقريته في التعبير عن أشواق السودانيين في بناء دولة الكفاية والعدل، الوسطية والطهر، فلم يستمع لنا وجرت رياح التغييرات، ولحظة إعلان النبأ اتصلت بالدكتور عصام فوجدته يتأهب للدخول إلى مسجد دبي الكبير بالإمارة خطيباً، فقال لي «إن حياتي لا تعرف الفراغ»، ثم لم يلبث أن أصبح مسؤولاً عن «منظومة الوسطية» بمنطقة دول الخليج، ومن ثم أصبحنا نشاهده عبر الفضائيات العربية، ولا زلت أذكر استضافة قناة الجزيرة له عبر برنامج «الشريعة والحياة» في نسخة من ذلك البرنامج الشهير، وكانت تتناول ملف المدرسة السلفية، فلم يملك مقدم البرنامج إلا أن يستمع ويستمتع متأدباً. ثم جاءني من يخبرني بأن الدكتور عصام قد أمَّ المصلين بمسجد النور بضاحية عمر المختار، فاتصلت به مباشرة، خاصة وقد علمت أنه كان يتعالج بدولة ألمانيا، فطمأننا الرجل على صحته وقال إنه قد خضع إلى عملية جراحية هناك، والآن يتعافى، وأن خطبة مجمع النور كانت هي خطبته الأولى بعد فترة التطبيب، وطمأننا أكثر بأنه قد جاء ليستقر بأرض الوطن، بعد أن أسس أطروحة «منتدى النهضة والتواصل الحضاري»، وباشر العمل بها، وهذا المنتدى ينهض بعدة محاور ومهام، منها محور تعزيز الوسطية «الارتباط بالأصل والاتصال بالعصر»، بحيث لا تفريط ولا إفراط، ويستحق عصام البشير بجدارة لقب «رجل الوسطية»، فلقد ظل الرجل مهموماً دائماً بصناعة أرضية وسط تلتقي عليها كل المدارس الإسلامية، وذلك في ظل تكالب كل الملل والنحل على أمة الإسلام، غير أن في وسطيته متسعاً للآخرين من أهل الأديان الأخرى ما داموا يشاركوننا الوطن والتعايش والسلام، وسألنا الدكتور إن كان سيكون الخطيب الدائم لمسجد مجمع النور، فقال إنه «الخطيب الرئيس»، غير أن المجمع سيتيح فرصاً لبعض العلماء عند زيارتهم للبلاد، ويرى في مسجد النور أنه مسجد نوعي ويحتاج إلى خطب نوعية، ووعد أنه سيجتهد في تقديم هكذا خطب، وستكون خطبة الجمعة القادمة إن شاء الله تحت عنوان «رحم الأوطان ورحم الأكوان»، وذلك مواصلة لمفهوم الأرحام الذي يتسع عند فضيلة الدكتور ليشمل جوانب عدَّة، ومنها رحمية الدين وأُخوَّته، ورحم الوطنية والإنسانية، وتمتد لتتصل بكل شرفاء العالم وأحراره، ويرى عصام البشير أن العروبة هي عروبة اللسان، وحتى سيبويه لم يكن عربياً بل كان فارسياً، وسلسلة طويلة من الذين خدموا الدعوة واللغة من غير العرب، ذكر منهم الإمام أبو حنيفة والبخاري والترمذي يرحمهم الله، وغيرهم. يذكر أن السيد رئيس الجمهورية ووزير الدفاع قد شهدا صلاة الجمعة بمسجد «عصام أحمد البشير». وأتصور، والحديث لمؤسسة الملاذات، الجناح الفكري، أن مرحلة جديدة من «جمهرة المساجد» أو جوهرتها واحتشادها، ستطل من مجمع ومسجد النور بمنطقة كافوري بالخرطوم بحري، وربما يذكر في هذا السياق «مسجد الجامعة»، ثم مسجد الشهيد، وأخيراً مسجد السيدة السنهوري، لكننا ومن الجمعة الفائتة نستطيع أن نؤرخ لهذه الشراكة الذكية بين «مجمع النور ووسطية عصام البشير».. والله أعلم.