{ أبحث اليوم عن فكرة مبتكرة تتمنّع عليّ وتأبى، عن استهلال قوي وعميق، وعن مضمون مؤثر، مدهش، فاعل وذكي. عن قضية مهمة وموضوعية وساخنة تستحق البحث والتناول، أؤكد عبرها انحيازي التام لكم وصدقي في خدمة القضايا الحساسة المباشرة بسلاح القلم الضعيف الواهن، أبحث عن عبارات رنانة وقوية تستحوذ على اهتمامكم وتسترعي انتباهكم وتضع بصمة واضحة بأذهانكم، أبحث عن أسلوب جديد، خاص، ومميز يستوقفكم طويلاً عند حدود هذه المساحة التي أنداح عبرها لأشارككم الهم والفكرة. { لقد بدأت أشعر مؤخراً بالرتابة والسأم، أشعر أن كلماتي باهتة وعباراتي باردة ويدي مغلولة، وها أنا اليوم أجلس حائرة وعاجزة أمام أوراقي، تتزاحم آلاف الكلمات ومئات الأفكار على رأس قلمي ولكنه يقف واجماً حائراً، يلجمه الصمت وقلة الحيلة وهذا الذهن الأجوف، فماذا أفعل؟ وعمّ أكتب؟! { من أين أدخلكم فأستوطن؟ وكيف ألمس عصب الصبر بأعماقكم فتستطيعونه معي؟ أي الطرق أقصر لتؤدي إلى كسب ثقتكم الدائمة ونيل رضاكم التام ليتسنى لي الاحتفاظ بكم كقراء مداومين وأنصار مؤازرين؟! وكيف لي أن أسبر أغواركم وأتوغل في أحاسيسكم لأتعرف على آرائكم ومتطلباتكم وأفكاركم، وأتمكن من الحديث عن مشاكلكم اليومية وقضاياكم المقلقة ومعاناتكم وأزماتكم النفسية وضوائقكم المالية لنحاول الخروج معاً من عنق الزجاجة؟ { ما هي الكلمات المناسبة لأحكي عن جراحاتكم وعذاباتكم وإحباطاتكم، وأي الضحكات أنسب لأطلقها بالإنابة عن أفراحكم ونجاحاتكم وإنجازاتكم؟ وما هي الحلول التي يمكنني اقتراحها لأسهم في دفع الضرر ورفع المعاناة ودعم المعنويات وتحسين الأوضاع؟ كيف أخدمكم فأوصل أصواتكم لأصحاب الشأن والمناصب لتستردوا حقوقكم الضائعة دون إهدار لماء وجوهكم وكبريائكم؟! وقبل كل هذا، من الذي انتخبني لساناً لحالكم؟ من اختارني نائباً عنكم ومتحدثاً باسمكم؟ ومن أين واتتني الجرأة لأنصب نفسي سفيرة عن أحلامكم وآهاتكم ودموعكم؟ من الذي منحني الحق في السرد والمجادلة والمناقشة والتفاكر والحسم وإصدار التوصيات لأجلكم؟ إنها - يا أعزائي - حمى الكلمة، وهي - للتوضيح - علة مزمنة تقتات من أعصابنا وتجري في عروقنا مجرى الدم، تستفز أناملنا وتحركها دون إرادة منا، وتقصر أذهاننا لتتفتق عن أفكار لامعة ترهق عقولنا وتأكل كل صباح من أجسادنا وأيامنا وتفاصيلنا، فنموت نحن بالأمراض المزمنة أو الفجائية وتحيا «الكلمة» بعدنا طويلاً. { وأعترف أن ذات «الكلمة» المعمِّرة تتخاذل أحياناً وتتسرب من بين أحبارنا فيعترينا هذا الوجوم الذي أكابده اليوم فنتساءل: من أين أبدأ؟ وفيم أكتب؟ وكيف أكسب كلماتي الشرعية اللازمة؟ ونحن مهما طالت أسنة أقلامنا تبقى قصاراً أمام قامة السلطة والثروة، ومهما ارتفعت أصواتنا بالشكوى والاستنكار والرجاء تبقى آذان أصحاب الكراسي المخملية مشغولة عنا بهواتفهم النقالة!! { لم يعد باستطاعتنا أحياناً أن نكتب كل ما نريد، وإذا كتبناه قد لا ينشر، ونصف الذي ينشر قد لا يباع، ونصف الذي يباع قد لا يقرأ، ونصف الذي يقرأ قد لا يفهم، ونصف الذي يفهم قد يساء فهمه، وكل هذا وذاك يضيع ذات يوم بين أضابير النسيان وسلة المهملات. وكل أقلامنا حتماً تتكسر ذات يوم أو ينضب مدادها، وكل الأصابع تتيبس بعد حين أو يأكلها التراب ودود الأرض يوماً، فقط، تبقى هذه الكلمة ذات العمر الطويل. { تلويح: «تبقى الكلمة ونحنا نغادر.. وتفضل شايلة الثمر الطيب».