ذات هاتف نهاري قلقة حذرتني شقيقتي (عايني إذا جاك تلفون غريب ماتردي قالوا...) والجميع أصبحوا قائلين يتحدثون عن هاتف خطير يحيل رأسك إلى سمن بلدي ذي رائحة، أو عينيك إلى نار ذات لهب، أو على أحسن الفروض يحيل هاتفك إلى حجر أصمّ! وصمت الناس وتكلمت الشائعة كالعادة عمّا يحدث، وجاءت حقائب الأصدقاء والإخوان والأخوات مملوءة بالأرقام محتملة الأذية، ورسالات التحذير الخائفة على رؤوس الأحباء والأهل والتنبيه بعدم الرد أبدا.. أبدا على هاتف غريب، وأن نعيد استخدامنا للجملة المشهورة للسخف الهاتفي والأرقام المجهولة والهواتف الغريبة بأن ( منو معاي.. معاي منو؟) ومن بعد الرد بما يلزمك من معرفة تحدد تعبيراتك الصوتية والوجهية الأمنية فتنتهي المكالمة بسلام. واليوم وبفضل شركات الاتصالات المنتشرة التي قامت بكل دهاء بتخفيض قيمة الاشتراك عبرها حتى وصل إلى ثلاثة جنيهات للشريحة وأحيانا مجاناً إذا قمت بشراء الهاتف المحمول، ثم نصبت لك شركها عبر كروت الشحن المدفوعة مقدما أو عبر الفواتير الشهرية لمكالماتك المفتوحة على الغرباء والأقرباء دون مجرد محاولة منك لتبرير قيمة الفاتورة العالية أو كيفية استهلاكك لكل هذا الرصيد والمال ! ولن يكون معك قريب أو غريب في خرابك الاقتصادي الكبير جراء شهيتك المفتوحة على الإعلانات الباذخة للشركات كل يوم عن فتح جديد في مجال الاتصال والهواتف والخدمات، والفتح لن يزيد عن فمك الممتلئ بالكلام والتراب ومؤخرا بالدم كما تسري الشائعة، ومع ذلك لن يسعك فضولك والإنسان المغامر بداخلك إلا على الرد على الرقم الغريب علك تصادف متأخرا حظا سعيدا أو قريبا انقطع به الاتصال أو الكرت في مفترق أحوال. فكم مرة فاجأتك فتاة الهاتف بخبر انتهاء رصيدك وأنه لا يمكنك إجراء مكالمتك، كم مرة خلعتك الصافرة المزعجة لاتصالك من مزاج المهاتفة وأهميتها لتخبرك بانتهاء كرت دفعك المقدم ولا مؤخر لديك يخرجك من المأزق لإكمال مكالمتك فتضطر غير آذ أن تتصل بمن تحاوره عبر الهاتف الثابت قليل القيمة الذي غالبا أصبح مرتكزا على قوائمه في محلات الاتصالات الواقفة عليها بنات الجامعات المتخرجات غير العاملات لأنهن غريبات لا قريب لهن يدخلهن في الخدمة الفاعلة، ولأن الرقم غير المألوف يقلق المتصل به من الرد على رقم غريب، وينتهي أنت يومك بتكرار الاتصال من ذات الرقم الغريب فلا حيلة لك في ما لا تملك من رصيد! أما الأحتيال الهاتفي وهو واحد من خدمات الاتصالات تبدأ كذلك بهاتف يخبرك بأنك فزت في مسابقة أو سحب أو أنك مسحور ومحسود أو جاءك كنز من كنوز سليمان - عليه السلام - والمطلوب في كل الأحوال هو أن تفتح أذنيك جيدا وفمك ومن بعده جيبك لجشعك غير المبرر ورغم التحذيرات المتكررة عبر الصحف من السيد مدير شرطة ولاية الخرطوم السابق للمواطنين من الدجال السنغالي ومن عصابة احتيال السحب إلا أن الحالات مستمرة والغرباء يهاتفون باستمرار والضعفاء يقعون فرائس هشة لعقولهم الحالمة وعيونهم الطامعة ولا ريبة لهواتفهم المجيبة للأصوات الغريبة..! والغريب أن الشائعات مستمرة بذات التقنية فكما سرت آلاف المرات أنباء الرجال السارقين لأعز ما يملك الرجل لمجرد المصافحة والسلام! والسيدات آكلات الرجال من دبر لمجرد الطمع في حرام لذيذ! والحيوانات الغريبة والدخلاء الرماديين خاطفي الأطفال، المتبخرين فقط بذرّ الرماد على عيونهم أو الحناء على اقدام الأطفال و..الخ، تسري هذه الأيام شائعة المهاتف الغريب الذي لا يكسب أي شئ سوى إذابة عقلك وإصابتك بمرض فيه، العقل المذاب أصلا من شدة التفكير ومحاولات إيجاد حل لما نحن فيه، والحرّ أو تفجير قرنية عينك المحمرة من هول ما نشاهده كل يوم في الفضائيات والأخبار، أو تحويل هاتفك المحمول الى خرابة صامتة، مع أنه كذلك فليس لديك رصيد كاف لهذه المحاولة ولا المحاولات الأخرى لمعرفة الاجابة على سؤالنا البريء، من معنا ومن ضدنا؟ في ما يتعلق بالشائعات ومحاولات البلبلة الهاتفية هذه ومن هم هؤلاء الغرباء المهاتفون الذين يحاولون صيد عقولنا وعيوننا وهواتفنا وإذابتها في إشعاعاتهم القادمة من فضاء بعيد؟! ولماذا لا تقف شرطة المعلومات في وجههم وتفضحهم إن كانوا حقيقيين؟ ولماذا يتركنا أولو الأمر هكذا نذوب في الرمال المتحركة للإشاعات كل مرة نغرق فيها حتى آذاننا ولا نجد إجابة واحدة عاقلة تعيد لنا الثقة في الناس والهواتف والاتصالات؟ أليس غريبا أيضا أن شركات الاتصالات لا تتضرر من مثل هذه الشائعات بل على العكس تماما هي في صالح رصيدها المقدم وفواتيرها الشهرية، فنحن كأمة تخاف من الإذابة الهاتفية، وعلى أشياءنا العزيزة وعقولنا الفاخرة، فسنضطر إلى استخدام هواتفنا بأرقامها المسجلة في ذاكرة من نتصل بهم كمقربين غير مؤذيين ولا قابلين للإذابة وملء رصيدها بما يكفي لأن نهاتف الأقربين بالمحمول حتى لا يفجعنا استفزازهم الاستفهامي (منو معاي)! ونترك للغرباء أن يحاولوا مكالمتنا من أرقامهم المعروفة غير المسجلة أو الغريبة، في كل الأحوال لن نرد أبدا..أبدا!.