لم تكن الخطة التي تحبو بين ثنايا ذهن الرجل الأول وليدة اللحظة بل باتت هماً يؤرِّق مضجعة ويعصف بكيانه كلية، وما حقنة المخدِّر التي ترقد بين أصابعه، إلا وسيلة حتماً ستبرر الغاية التي كرّس وقته وجهده لتحقيقها قبل شروق شمس العيد في يومه الأول، وهو أن ينأى بذلك الجسم الغريب الذي ولج باحة الدار في حضن (نادية) بعيداً عن حياتهم. والناس تهتم بالتفاصيل الصغيرة وتنسج منها قصة يعجب لسماعها الطير، وتوجس أن يخرج الخبر للناس حسب أمزجة وفود المحبين وأهل الجوار في الحي وهم يزجون التهاني والمباركة في تطوافهم على المساكن عقب صلاة العيد مباشرة ويتكشف على مقربة من أعينهم عورات ارتأى أن يتكتّم عليها حتى لا تلاحقه فصولها أينما ذهب وتهدد علاقاته ومكانته الاجتماعية. وبدأ يتحرك عندما ارتدى الليل بردته وهجع كل شيء إلا نباح الكلاب وهي تعوي بكثرة بين الدروب المعتمة ورائحة (الخبيز والكيك) تنبعث من عمق الفرن الذي يتوسط الحي، وأصوات متفرقة تُسمع هنا وهناك، والليل ساج ووقتها فقط استطاع أن يفرغ محتوى الحقنة بكامله في فخذ الجسد الصغير الذي التقطه من حضن (نادية) ونأى به لمكان قصي داخل المنزل حتى لا يرتاب أحد في تحرُّكه الذي أضحى خياراً صعباً لابد من القيام به وحمله بارتعاش وزجّ به داخل صندوق صغير بعد أن جعل منه لفافة بقماش شفيف حتى لا تخمد أنفاسه التي كانت تعلو وتهبط في حركة منتظمة وبدأ يغذي خطواته للخارج وهو يتخيل (نادية) عندما تصحو وتجوس المكان فلا تجد من كانت تداعبه وتلعقه بلسانها الذي يسيل منه لُّعاب يختلط بلعابه في مشهد يدعو للغثيان. فوقتها فقط ستثور وتضج بكل جنونها ونفسيتها المريضة ولكن لا يهم.. فانطلقت سيارته وموتورها يعوي في جوف الليل الفاحم وكأنه يبكي من فرط ألم الموقف. لتنطلق من رأسه أسئلة مضطردة لم يعرف لها معالجة البتة، وبدأ صدره يمور بهواجس شتى ظل يقمعها باستمرار وهو يزيل حبيبات العرق التي تتفصد جبينه فلا تنفك تتناسل مرة أخرى بنفس القدر. أما الرجل الثاني بدأ يتحرك وسط العتمة داخل أحد الأحراش خارج المدينة ورجلاه تغوصان في الوحل وهو يتقزز من رائحة الطين الملوث الذي خلفته سيول أمطار سخية هطلت بغتة الليلة الفائتة فأحالت قلب المدينة وأطرافها لبركة لزجة غذّت بشكل أو بآخر مهمة الرجل وهو يحمل صندوق ذي سعة أكبر يشغل فراغه جسم صغير ظل ينظر إليه بين الفينة والأخرى نظرة كليلة ولقد أنفق ساعة من الزمن النفيس وهو في حيرة واضطراب صاخبين بُغية وضعه في مكان غير مبتل. و«نادية» يعتصرها نوع من الجنون جعلها صديقة لانفعالات ساخرة تتكالب عليها بين الفينة والأخرى وتطاردها هواجس لئيمة وأفعال محرجة كان آخرها ذلك الجسم الغريب الذي مجّته نفس الرجل الأول وهو بمثابة أخيها غير الشقيق الذي استقبلها مؤخراً في داره رغم تذمُّر وامتعاض زوجته من سلسلة تصرفاتها والتي كان أولها خروجها بشكل دائم مع ذلك الفتى ذي الطول المفرط الذي يقوم أحياناً بأفعال غير لطيفة بالمرة رغم نوبات الحصار التي كانت تضربها عليها مؤخراً. آثر الرجل الثاني التريُّث والسكون لعدة لحظات عندما لمح صدفة مغادرة الرجل الأول سيارته حتى اختفى تماماً بين الأشجار ووقتها فقط، توهّجت الفكرة في ذهنه ومست الطمأنينة شغاف فؤاده وهو يتقدم ببطء كبير تجاه السيارة التي وضع على مقعدها الخلفي بيد مرتجفة محتوى الصندوق ثم اختبأ على عجل. وتحت أشجار الهجليج المتداعية في خشوع ألقى الرجل الأول محتوى صندوقه والليل ساجٍ لا تسمع نأمة إلا صوت الصراصير وهي تلهب طبل الأذن بصريرها المتوالي والنجوم تتلألأ على صفحة السماء الفاحمة ترقب خلسة بين الفروع يداه المرتجفتين وهما يفكان أطراف الثوب الذي يلف الجسد المُسجّى أمامه حتى جعل أنفاسه تتمتع بلعبة الشهيق والزفير. حملته قوائم رجليه بصعوبة وأبعدته عن المكان بخطى متثاقلة والصداع المحموم يفصل لبابه عن بقية الأعضاء والهواجس تثور وتخمد في صورة محدودة بفعل حساسيته المفرطة والتي ظلت تلازمه منذ زمن غير قليل لم تمض لحظات حتى تحرّكت سيارته وهي تحمله بعيداً عن المكان وتنفس الرجل الثاني الصعداء وقال بصوت كالهمس: أخيراً وخز الضمير عندما تسلّل الرجل الأول في عتمة الليل إلى باحة الدار وحركة خطواته الحذرة تذوب بين (شخير) الأجساد النائمة وحال (نادية) يستبد به عندما تصحو وتبحث عن مفقودها ولا تجده بالطبع سيكون مشهداً غريباً هستيرياً. احتواه المرقد ودقات قلبه تنفض عن صدره الغطاء فلم تمس أجفانه سِنة حتى وضع الفجر يديه على زجاج النافذة وصدحت مآذن المدينة كلية «الله أكبر.. الله أكبر.. الله أكبر.. لا إله إلا الله.. الله أكبر.. الله أكبر ولله الحمد..» سيبزغ بعد حين صباح العيد بأشعة من فرح وسلام، وظل يتقلّب في مرقده وهواجسه حتى ترامت إلى مسامعه ضربات متقطعة واهية على باب الدار الخارجي وعندما أبعد المذلاج عن فتحته الدقيقة انجاب الباب عن الكلب الصغير وهو يلهث ويئن في استجداء وبقايا قطعة القماش الشفيف تلتف حول ظهره المبتل وقد انسرب داخلاً يسعى لصاحبته «نادية» وغرق الرجل في دهشته عندما لمح شبح طفل صغير ينتفض بصوت كتوم داخل سيارته التي تنتصب خارج الدار بفعل أشعة الشمس التي غمرت المكان وانعكست عليه من بلور السيارة شمس صباح العيد التي أيقظت الطفل الرضيع وكفّ عن البكاء عندما شعر بوجه الرجل الأول وهو يحدِّق إليه من خلال النافذة، فانفجرت أساريره عن ابتسامة بريئة مطمئنة فتفجّر الحنان وضجت الحياة..