ربما وجد الشاعر القديم عذراً لمحبوبته التي لم تذره في الليل : جبينها الذي يضيء في الليل ، والحلي الذهبية التي لها صوت يسمعه الناس ، ثم عطرها ... ثم عاد الشاعر القديم ليقول : نفرض أنها استطاعت أن تغطي جبينها المضيء بجانب ثوبها ، ثم أنها نزعت ما في يديها من حلي حتى لا يسمعها أحد .. فكيف تمنع النسيم أن ينقل رائحة عرقها ! قال الشاعر القديم - و أظنه – أبو المطاع بن ناصر الدولة: ثلاثة منعتها من زيارتنا وقد دجى الليل ، خوف الكاشح الحنق ضوء الجبين وسواس الحلي وما يفوح من عرق كالعنبر العبق هب الجبين بفضل الكم تستره والحلي تنزعه ما الشأن في العرق ؟! ومعشر (الكُتََّاب) عزيزي القارئ ، يتفقون مع تلك المحبوبة في هذا (العرق) ، فعرقهم هو الجهد العظيم الذي يبذلونه في الدرس والقراء والإطلاع ، وتبقي آثاره واضحة في كتاباتهم وفكرهم ، وهو الحقيقة الوحيدة – عرقهم – التي لا يستطيعون أن يخفونها عن قارئهم الحصيف ، والذي يطل علي (نتاجهم) فيشيع فيه من لطف الفاهم ما يجعله يفني أو يمكث علي الأرض طويلاً . ونحن قبيلة الأطباء عرقنا هو (مصل الاهتمام البالغ) والمخفف بماء العناية المقطر والذي نحقنه بأوردة مرضانا فيتحقق لهم الشفاء والصحة ، وأنا حقيقة يعجبني ايّما إعجاب الاختصاصي الإنسان الذي يهب جل وقته لمرضاه وأطباء الامتياز بوحدته فيعلهم (قبل ماديات الطب التي تُلحق .. أخلاقيات الطب التي لا تُلحق) ، ومثال وضئ ومشرق لذلك (د.مجدي عبيد اختصاصي الباطنية والقلب بمستشفي أمبدة النموذجي ) . أما الاختصاصي اللاهث – المشغول بعيادته الخاصة وطلاب كليات الطب التي تدفع له بسخاء – الذي لا يجد الوقت الكافي لمرضاه وأطباء الامتياز بوحدته فيمر بهم مرور الخاطر علي بال الخالي ، فهو للأسف إنسان لا يعرف حدود نفسه !! وقديماً قال الفيلسوف الكبير سقراط عبارته الشهيرة (أعرف نفسك) ، وهي العبارة التي وجدها مكتوبة بمعبد (ولفي اليوناني) ، فاتخذها شعاراً لكل فلسفته ، ولا غرو أن عده مؤرخو الفلسفة المؤسس الأول للفلسفة الأخلاقية ، ويعرف الإنسان نفسه عزيزي القارئ بمعني واحد : هو أن يعرف حدود ما تقدمه من نفع حينما تلتقي وتتأثر بما حولها من الأحياء والأشياء . والاختصاصي اللاهث – في نظري – هو مَنْ قد حوّل (مهنة الإنسانية الرفيعة الرحمة .. إلي مهنة الاكتناز المادي حتى التخمة ) فيا أستاذي الاختصاصي اللاهث ألم تقرأ الآية الكريمة التي تقول «مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً » - المائدة32 . وإذا كان الموسيقي العظيم (باخ) عرّف الأسلوب الموسيقي قائلاً (هو الصدق الأكبر.. وهو ملامح روح العمل الفني) ، فإن كثرة أعداد المرضي الذين نالوا الشفاء والاهتمام البالغ علي أيدينا نحن الأطباء .. هم ملامح وروح العمل الطبي .. وفي الختام حتى الملتقي أعزائي القراء أسأل الله لكم اليقين الكامل بالجمال حتى يقيكم شر الابتذال في الأشياء .