حتى لو كانت الليلة هي الرابعة عشرة من الشهر ميقات أن يكتمل القمر بدراً لا يجاريه ولا يدانيه أحد في الجمال ولا الحسن، لاختفى تلك الليلة تواضعاً وقلة حيلة في حضرة ليلة زفاف الأخ الهندي عزالدين، زينة عرسان الصحافة السودانية، وهي ليلة كانت كاملة الجمال والبهاء متدفقة الرونق بازخة الحلاوة، وكيف لا والصالة الذهبية التي ازدانت بالذهب حيثما تقع عيناك، قد امتلأت حتى آخرها بالأهل والأحباب والأصدقاء والزملاء الذين جاءوا للتهنئة والمشاركة والمباركة واقتسام الفرحة مع العريس والعروس اللذين دخلا بهو القاعة الفسيح على أنغام السيرة والدلوكة السودانية في زفة أرادها الهندي أن تكون سودانية الطعم والمعنى والمغزى، وربما أنه لم يضع في حساباته أن الزفة ستكون تسخينة للاعبين لم يجلسوا طوال ساعات الحفل وأجسادهم تمارس الطرب الأصيل ما بين عرضة وتبشير وتصفيق، وأي جسد ذلك الذي يستطيع الصمود أمام زخات صوت صلاح بن البادية، هذا الرهيب العجيب الذي يسجنك داخل دائرة الأسئلة فتحار من أين تبدأ وتوجهها إليه، هل عن شبابه الدائم ووجهه الصبوح أم عن صوته الصداح الذي يضرب كل يوم بعرض القوانين ونواميس وقوانين الأشياء عرض الحائط، فهو صوت لا يشيخ ولا يكبر وكأن خلاياه تتجدد بتجدد الدورة الدموية لصاحبه. نعم أبدع ابن البادية وجعل العمم تتطاير والعكاكيز ترفع وهو يغني (الليلة سار يا عشاي عديل لي) لتنتهي وصلته، ونفسي الأمارة بالسوء تسألني من سيستطيع ان يكسب الشوط الثاني في الغناء أو يعادل النتيجة بعد صلاح بن البادية، ليأتيني القوون مباشرة وصوت حمد الريح يصدح كما برق القبلة العبادي الذي يشلع دون مقدمات وتعقبه زخات المطر قمحاً ووعداً وتمنياً، فأبدع حمد لأنه مسكون بالإبداع وأطرب حمد لأنه معجون بالطرب وجعل ابتسامة الهندي (دبل)، وكيف لا تكون الابتسامة مرفوعة للأس ثلاثة ونحن في حضرة قبة الفن الجميل ورقي الكلمات وحلو المعاني ومعتق الأصوات، ولأنني كنت أعلم أن المسرح ستعتليه ندى القلعة بعد هذين الهرمين اشفقت عليها وقلت في سري «هي الليلة في امتحان صعب ولو أن درجة سخونة الطرب قلت واحدة عن معدلها لسقطت ندى في الامتحان»، ولكأن بنت القلعة قرأت ما يدور في رأسي فمنحتني الجواب عملياً (حماساً) يخلي شعر الراس يقيف (وسيرة) تجعل كل عزابي داخل القاعة يقبط الهندي على أنه عريس، لنستمتع بفصل من السلطنة والروقان، ندى هي الوحيدة التي تعرف دروبه وتعرف من أين تؤكل كتفه، لينتهي المهرجان في تمام الثانية عشرة والأهل والأحبة يتشوقون للمزيد، وكأن الساعات الخمس التي قضوها في طرب متواصل واحتفاء بهيج لم ترهق أقدامهم الواقفة ولا أياديهم المرفوعة. فالتهنئة لك أخي الهندي ولعروسك، ليس فقط على الزواج المبارك إن شاء الله، ولكن التهنئة لك بحب الناس من أهلك وعشيرتك وزملائك، وهي نعمة، فقد عرفتك أنا - وهذه (شهادتي لله) - ود بلد وأخو اخوان، تحمل قلباً هو من الطيبة ما يحيرك ومن الشدة ومن البأس ما يبهرك، فلتهنأ بحياتك سعيداً راضياً وبالرفاء والبنين. { كلمة عزيزة كلما أكون مدعوة لمناسبة فرح أجد نفسي ودونما تخطيط أتفحص وجوه الناس المبتسمة واساريرهم المنفرجة، وفي كل مرة أصل إلى نتيجة واحدة أننا نحن السودانيين ديل شعب جميل وخالص السر والسريرة.. ربما أننا نتعرض أحياناً لكبوات نفسية أو عاطفية في غالبها مسبباتها سياسية واقتصادية، لكن تبقى تلك (اللؤلوة المكنونة) في قلوبنا صافية لم تتعرض لتشويه أو تغيير، تميزنا عن كل شعوب العالم بأننا شعب صادق وجميل نفرح لغيرنا ونحمل هم أن نجعله يشعر بهذه السعادة، فتحتار أحياناً ومن فرط المجاملة وتدفق المشاعر أن تعرف من هم أهل المناسبة الأصليون والكل صاحب دار والجميع هم ناس البيت. { كلمة أعز من يقول لهذا الشخص إن الفرق كبير ما بين الظرافة والاستظراف.. والقبول من رب العالمين.