{ أتصور أن التاريخ سيقف طويلاً قبل أن يسجل تلك الإفادات الباهظة التي أدلى بها أحد الجنود الأمريكيين، الذي كان واحداً من بين قلائل شاهدوا عملية إعدام الرئيس صدام حسين، ودعونا هنا نستذكر تفاصيل ووقائع عملية المشنقة، كما قال بها هذا الجندي شاهد العيان، ثم نعلق عليها رقابنا وتأريخنا ومستقبلنا.. { لقد فُتح باب زنزانة صدام حسين الساعة الثانية صباحاً، ثم قام قائد المجموعة التي ستشرف على حكم الإعدام بإخبار صدام أنه سيُعدم خلال ساعة من الآن. { طلب الرئيس صدام حسين بعد ذلك وجبة من الأرز مع لحم الدجاج المسلوق، ثم شرب بعد ذلك عدة كؤوس من الماء الساخن مع العسل، وهو الشراب الذي اعتاد عليه منذ الصغر. { بعد تناوله وجبة الطعام دُعي إلى أن يذهب إلى الحمام حتى لا يتبوَّل أثناء عملية الإعدام فيشكِّل ذلك حرجاً، فرفض صدام ذلك. { عند الثانية والنصف توضّأ صدام حسين وجلس على طرف سريره المعدني يقرأ القرآن، وكان فريق الإعدام ساعتها يجرِّب حبال الإعدام وأرضية المنصّة. { في الساعة الثانية و(45) دقيقة وصل اثنان من المشرحة مع تابوت خشبي منبسط وُضع إلى جانب منصة الإعدام. { في الساعة الثانية و(50) دقيق أُدخل صدام إلى قاعة الإعدام ووقف الشهود قبالة جدار غرفة الإعدام وكانو قضاة ورجال دين وممثلين عن الحكومة وطبيباً. { في الساعة الثالثة ودقيقة بدأت عملية تنفيذ الحكم التي شاهدها العالم عبر كاميرا فيديو من زاوية الغرفة، وبعد ذلك قرأ مسؤول رسمي حكم الإعدام عليه. { كان لحظتها صدّام ينظر إلى المنصّة التي يقف عليها غير آبه، بينما كان جلادوه يرتعدون خوفاً، لدرجة أن بعضهم كان خائفاً حتى من إظهار وجهه، فقد تقنّعوا بأقنعة شبيهة بأقنعة المافيا وعصابات الألوية الحمراء.. كانوا خائفين بل مذعورين. { لقد كدت أخرج جرياً من غرفة الإعدام حينما شاهدت صدام يبتسم بعد أن قال شعار المسلمين (أشهد ألا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله). { قلت لنفسي يبدو أن المكان مليء بالمتفجرات وإننا قد وقعنا في كمين، وذلك استنتاج طبيعي، إذ ليس من المعقول أن يضحك إنسان قبل إعدامه بثوان معدودة، ولولا أن العراقيين سجّلوا هذا المشهد لقال زملائي الأمريكيين إن هذا من المستحيلات. { ولكن ما سرُّ أن يبتسم هذا الرجل وهو على منصة الموت، فقد نطق شعار المسلمين ثم ابتسم، وأؤكد لكم أنه ابتسم وكأنّه كان ينظر إلى شيء ظهر فجأة أمام عينيه، ثم كرّر شعار المسلمين بقوة وصلابة وكأنّه قد أخذ شحنة قوية من رفع المعنويات. { أوكد لكم أنه كان ينظر إلى شيء ما.. إنني لا أعلم ما مدى صحة ما يقوله بعض أصدقائنا المسلمين في العراق بأن الشهداء يدخلون الجنة مباشرة ولا يشعرون بألم الموت، ويقولون إن الشهداء يقتلهم الكفار، الذين هم نحن في هذه الحالة، ولهذا يعتقدون أننا قد أهدينا لصدام حسين هدية عظيمة حينما قتلناه. { انتهى حديث الجندي الامريكي، والآن الحديث لمؤسسة الملاذات، الجناح الفكري. { من يدري لعلَّ الله سبحانه الغفور الرحيم الذي غفر لأهل بدر، قد نظر لقلب صدام وهو يواجه الكفرة اللئام والعلوج الأفظاظ، فوجده صادقاً في مناهضتهم، فغفر له، فلقي صدام ربه كما المجاهدين الصادقين الأبرار. صحيح أن صداماً قد ارتكب من الخطايا والذنوب ما ارتكب، لكن الأصح أن رحمة الله ومغفرته أعظم وأرحب وأوسع من أن يصادرها أحد.. لن يستطيع أحد أن يزعم أنه لن يغفر له، فهذا الحق يمتلكه العزيز الحكيم ذو القوة المتين وحده. { وهنالك مؤشرات غير التي قال بها هذا الأمريكي، الذي نسأل الله أن يكون له هذا المشهد بداية لتفكُّر وهداية وإيمان.. من تلك المؤشرات أن صداماً قد أُعدم صبيحة الجمعة، وكانت تصادف يوم عيد، ممّا دفع كل المسلمين السنة في مشارق الأرض ومغاربها إلى أن يدعوا له في صلاة العيد أن يتغمده الله برحمته. إن المسلمين من غير الشيعة الذين شاركوا الأمريكان عملية الاستفزاز، كما لو أنهم ينحرون صدام يوم العيد ويضحون به. { لكن تظل القيمة الأسمى التي يجب أن تستفيد منها الأمّة عامّة، وأهل المبادئ والقيم خاصة، هي الثبات في الملاحم.. الثبات الذي يرهب القتلة والجلاديين وأعوانهم يفترض أن يكون ديدن المؤمنين الصادقين. والله أعلم