القسوة منطق الوحوش، وبنو آدم حين يمارسون القسوة .. يخرجون عن إطار الإنسانية. أقصد تحديدا القسوة ضد الأبناء، فالأبناء أمانة في الأعناق، وممارسة العنف ضدهم ليست بطولة، ولا أسلوب تربية .. مهما كانت الذرائع . بصدق .. يقف شعر رأسي الكثيف شعرةً شعرة .. كلما سمعت عن جرائم العنف الأسري، خصوصا تلك التي يرتكب فيها الآباء العدوان القاسي المؤذي على فلذات أكبادهم. من الذي أعطى الآباء حق الاعتداء على الأبناء ؟ ومن هو هذا الأب الذي يمارس بطولاته أو هزائمه على أبنائه ؟ هل نملك تفويضا من أي جهة ما بأن نعتدي على الأبناء ونعرض سلامتهم الجسمانية للخطر ؟ أساليب التربية ما زالت للأسف تحبو، والعالم كله بات يمنع الضرب في المدارس، ويسن القوانين الرادعة للآباء الذين يمارسون العنف الأرعن ضد أبنائهم، لكن المجتمع ما زال يتقبل أن يضرب الأب ابنه بالخرطوش والشلوت والبونية، ولسان حال الجميع يقول : (إنه ابنه .. وهو حر فيما يفعل) !! لتذهب الحرية غير مأسوف عليها .. إن كانت تعني عدوان الآباء على الأبناء، ولتذهب الحرية غير مبكي عليها، إن كانت تنزع من أفئدة الآباء أعظم قيم الأبوة، وهي الرأفة والعطف والحنان. لا أعرف أرقام الإحصائيات، لكن ضحايا العنف من قبل الآباء باتوا في ازدياد. المسألة لا تحتاج اجتهادا كبيرا، فأخبار الصحف كل يوم تؤكد الحقيقة المؤلمة، وتشير بشكل مؤكد، إلى أن البعض باتوا يمارسون بطشهم ضد أبنائهم، تنفيسا عن ضغوط الحياة، وممارسة للقوة تجاه من لا حول لهم ولا قوة ! الأبناء كائنات إنسانية، ولديهم ما لدينا من إحساس داخلي بالكرامة، والكبرياء، والاعتزاز بالذات، ولذلك فإن هدم هذه المشاعر، وتحطيمها في النفوس اليافعة البريئة، قتل لأركان النفس السوية، التي ننتظر منها بناء مستقبل المجتمع. ومن العجيب أن العنف الأسري من الآباء .. لم ينحصر في الأب وحده، فقد أصبحت الأنباء تترى عن جرائم ترتكبها الأمهات، وهو سلوك لا يمكن استساغته أو تصديقه، لكنه يحدث، وكثيرا ما تكون الضحية ابنة في ريعان الشباب، أو طفلة لم يتفتح ذهنها بعد لجدلية الصح والخطأ خصوصا وسط الأميين . عنف الآباء يكرس لمجتمع قاس، تتآكل عظامه دون أن يشعر، وتتفرق أوصاله قبل أن تلتحم، وهو سلوك ينتقل للأبناء .. ليمارسوا بتأثير تربيتهم عنفا أشد ضد أبنائهم أيضا، وقد يتحول العنف ليصبح عنفا مضادا من الأبناء تجاه الآباء، وهي قمة المأساة في حياة المجتمع، وأقسى ما يمكن أن يحدث للإنسان في رحلة الحياة . أحد الذين جمعتني بهم الغربة، وكان شديد العدوانية تجاه الآخرين، لاحظته حاملا بعض الآثار لجروح قديمة أسفل رقبته، وعندما سألته عنها قال إنها آثار عقاب والده له، حيث كان يربطه بالحبال من رقبته، ترويعا له من الشنق، في حين كان يلهب ظهره بالسياط، عقابا له على أخطائه الطفولية ! الأبناء زهور في خمائل الحياة، وهم أمانة في أعناق الآباء، فحافظوا على أماناتكم قبل انفراط العقد، واحموها لتحموا المجتمع من الشر الوبيل.