قضى الأخطبوط (بول) .. وانطوت حياته بعد أن ملأ الدنيا ضجيجا، وذاع صيته بتنبؤاته الشهيرة أيام منافسات كأس العالم. الأخطبوط الذي نفق أول أمس، أشاع جوا من الأحزان بعد موته، والسبب أن الناس اعتادت وجوده، وليست مستعدة نفسيا لفراقه، مثلما يحدث مع كل الأشياء التي يعتاد الناس وجودها، وعندما تأتي لحظة فراقها، يرفضون نفسيا فكرة ذهابها. (بول) كان صناعة ثمينة للإعلام، فلولا الإعلام لما حقق ما حققه من شهرة، ولما عرضت الملايين ثمنا لابتياعه .. في زمن الهوس والجنون ! الفكرة من أولها إلى آخرها مجنونة، والدماغ الاستثماري في زمن الفلوس ولا شيء غير الفلوس، يتشبث بكل شيء يمكن أن يحلب الدولارات . فقد ركبت في رأس البعض فكرة استغلال الأخطبوط في كأس العالم، وهو الكأس الذي شغل الكون بفعالياته التي انعقدت في جنوب افريقيا، وتم اختراع طريقة يمكن بها جذب الأنظار للكائن المسكين، وهي تمكينه من اختيار علبة من بين علبتين تحملان ألوان المنتخبين المشاركين في المباراة محل التوقع، وبمحض الصدفة، أو بأصابع خفية من خبراء، استطاع الاخطبوط أن يتوقع بنجاح ودون أي خطأ جميع النتائج التي حققها المنتخب الألماني خلال كأس العالم، وكان التتويج لتوقعاته، ما توقعه من فوز اسبانيا بالبطولة. خبر النفوق أعلنه حوض ألماني للأسماك، حيث كان يعيش الأخطبوط الشهير، وأظن أن الحوض قد كسب المليارات من وجود بول فيه، ولو استطاع إطالة حياة ذلك الكائن، لدفع كل ميزانيته ثمنا لذلك، لكن الأخطبوط نفق، وطارت المليارات التي كان يدرها، ولم يعد بالإمكان سوى الإعلان عن الرحيل الحزين. جنون الناس، وجنون الإعلام، وتشبث الناس بالمعجزات، وتفاقم الاحباطات، وجشع النفوس، وعوامل نفسية لا أول لها ولا آخر، صنعت الأخطبوط الهالك، وجعلت وكالات الأنباء العالمية تتناول سيرته الذاتية ، منذ مولده عام 1908 في ويموث ببريطانيا، ثم انتقاله لألمانيا، وإقامة تمثال برونزي له بتمويل اسباني، بل وحصوله الغريب العجيب على لقب (مواطن فخري) من بلدة كارباينبو شمال شرق اسبانيا !! والناس يتشبثون بالخوارق، رغم علمهم اليقيني بأن ما يتشبثون به هو الوهم، بل ويصنعون بخيالهم صروحا يمنحونها التقدير والاحترام والطاعة، كما كان أهل الجاهلية يصنعون اصنامهم ليعبدوها !! والعجيب أن البعض يلبسون أشياء عجيبة ثوب القداسة، والقوة، وقد يذهبون لمحتال أفاك في بقعة قذرة، ومكان بائس، طالبين الاستعانة بقواه الخارقة، من أجل الصحة، أو المال، أو الكيد للآخرين !! ولقد قرأت أكثر من مرة عن (تيوس) تدر اللبن، وكان ذلك خارج السودان، ورأيت كيف يتكالب البعض على ألبانها، بعد أن شاع أن تلك الألبان تشفي بعض الأمراض المستعصية، كما عشنا في السودان خرافة الفكي (أب نافورة) في القضارف ، وكان ذلك ابان الستينيات من القرن الماضي، ورأينا كيف زحفت جيوش الناس لهناك، طلبا للعافية والبركة، التي شاع أن ماء أب نافورة كفيل بها !! الخرافة صناعة إنسانية، تسبح ضد تيار العقل، وتغطي عينيها عن الواقع لتصنع واقعا آخر غير واقعنا، ولذلك، صنع الغربيون خرافة الأخطبوط (بول)، وأكلوا الحلاوة احتفالا بتغييب العقول في زمن النور !!