الطلاق شبح أطلَّ برأسه في مجتمعنا بصورة مخيفة، ليهدد كيان الأسرة ويعصف باستقرارها، والنتيجة: تفكك أسري لا يسلم منه الكبار والصغار. فقد أكدت معلومات من مصادر مختصة أن (30%) من الذين يعانون من أمراض نفسية وعقلية بمستشفياتنا؛ هم ضحايا الطلاق، وأن (90%) من المشاكل أمام الرعاية الاجتماعية، مثل التشرد والعنف؛ مرتبطة بالطلاق؛ مما يعنى دق ناقوس الخطر الآن، لا سيما أن إحصاءات الدفاتر الرسمية أكدت أن (36) ألف حالة طلاق سجلتها دفاتر هذا العام. معدلات عالية ازدادت معدلات الطلاق بصورة ملفتة داخل المجتمع السوداني، وتكاثرت الأسباب المؤدية إلى فشل العلاقة الزوجية ووقوع الطلاق بين الزوجين، الأمر الذي أدى إلى حدوث العديد من المشاكل الاجتماعية والأسرية داخل المجتمع، أسهم فيها التفكك الأسري وعدم اتفاق الزوج والزوجة؛ إذ أن اختلافهما يحدث ضرراً بالغاً، وأثراً نفسياً ينعكس سلبياً على جميع أفراد الأسرة، وتكون الزوجة والأبناء هم الأكثر ضرراً عند حدوثه، كذلك الزوج يمسه الضرر؛ نتيجة تسببه في إحداث هذا التفكك والاضطراب الأسري. تشير آخر الدراسات والإحصاءات إلى أن أكثر من «36» ألف حالة طلاق تم تسجيلها بالمحاكم المدنية لهذا العام فقط، وأن أضعاف هذا الرقم من الحالات وقعت دون اللجوء إلى القضاء والمحاكم، باتفاق بين طرفي الأسرة، وهما الزوج والزوجة، هذه الزيادة الخطيرة في معدلات الطلاق في المجتمع؛ جعلتنا نتساءل عن الأسباب والعوامل المؤدية إلى هذا التفكك الأسري، ومعرفة الزوايا الحقيقية التي تعكس الأثر السلبي للطلاق، ومحاولة تفادي الوقوع في أهم الظواهر والمشاكل المؤدية إليه؛ من خلال تجارب حقيقية وواقعية حدثت وما زالت تحدث داخل العديد من الأسر. طليقي يكبرني تجربة عكستها لنا بطلة هذه الدراما المأساوية؛ (ن ، ع )، وهي تحكي قصة زواجها التي بدأت عندما شاهدها أحد أصدقاء عمها أثناء زواج شقيقتها الكبرى، وبعد يومين من الزواج تقدم الرجل إلى عمها بإعجابه المفرط بابنة أخته التي شغلت ذهنه واستحوذت على قلبه، وأبدى رغبته في الارتباط بها في حال موافقتها هي وأهلها، عليه، وبالفعل طرح الموضوع عليها وعلى أهلها، وبعد السؤال والمعلومات عن أسرة الزوج؛ علموا أنه من أسرة عريقة، ومهندس يعمل بإحدى الشركات الهندسية الكبيرة، ويبلغ من العمر حوالي «44 عاماً». في البداية اعترضت العروس ذات ال17 عاماً على فارق السن الكبير ما بينهما وأبدت عدم موافقتها على هذه الارتباط، ولكن بعد التقائها به اعترفت أن مظهره الأنيق ووضعه المادي الممتاز قد شدها إليه، وعقب موافقتها أغدق عليها الهدايا والحلى الذهبية ورسم لها دنيا تجمعهما في عالم من الخيال، كانت بداخله مثل الأميرة المدللة التي تأمر، وفارسها الأمير يستجيب في الحال..!! وبعد انقضاء فترة شهر العسل، ورجوع الزوجين من الجولة العالمية في عدد من الدول الآسيوية والأوروبية؛ بدأت الحياة العملية والمسؤوليات تنصب على كاهل العروس الصغيرة، وبدأت المشاكل تواجهها، مثل صعوبات التوفيق في دراستها الجامعية، وانشغال الزوج عنها بقضائه ساعات طويلة ومتواصلة في العمل، كذلك عدم وجود لغة مشتركة وتقارب في القناعات والأفكار ما بين الزوج والزوجة، التي زادتها نظرة الزوج إليها على أنها ما تزال طفلة جميلة لم تكتف بعد من كل متطلبات الطفولة، كذلك استياء الزوجة من الملل المصاحب لحياتها وتشبيهها لبيت الزوجية بالقيد المكبل لحريتها. ونتيجة لكل هذه المشاكل والأسباب؛ أصبحت هذه الزوجة الآن مطلقة وأماً لطفل يانع وصغير، وهي لم تتجاوز ال 18 عاماً إلى الآن...!! زواج وطلاق هذا ما حدث للشابة «م.أ» عندما أبدى قريبها رغبته في خطبتها لأنه معجب بها بصورة كبيرة، ويرى فيها فتاة أحلامه، والزوجة المثالية التي طالما حلم بلقائها والارتباط بها وتكوين أسرة صغيرة معها يلفها الحب والدفء والحنان، ودون تردد؛ ذهب إلى والد الفتاة وأخبره برغبته في الارتباط بابنته والزواج منها، وعلى الفور رحب به والدها وطلب منه إحضار أسرته وإعلان الخطوبة رسمياً، وبعد ذلك أخطر الأب ابنته «م.أ» بأمر العريس المتقدم لخطبتها، فأجابت أباها بأنها لم تتعرف عليه بعد، وأن هناك الكثير من المعلومات التي تطلب معرفتها بصورة مباشرة، وعلى الفور أبدى والدها اقتناعه برأيها، واقترح عليها فترة خطوبة تتمكن فيها ابنته من التعرف بصورة قريبة على خطيبها. وبالفعل تم الأخذ بفكرة الخطوبة، وتقدم الأهل رسمياً للعروس، وفي أثناء الاحتفال اقترح أحد الأقارب من الضيوف إحضار مأذون شرعي وتحويل الخطوبة إلى عقد قران، وهو ما حدث بالفعل، وبعد فترة من العقد بدأت المشاكل تحدث بين الزوجين بسبب الشك والغيرة والاختلافات المادية والثقافية، ووصلت هذه المشاكل إلى حد اختلاف الأسرتين في ما بينهما، وانتهت بإرسال الزوج ورقة الطلاق إلى زوجته!! وبعد ذلك تعمقت المشاكل، وكلما تقدم خطيب لخطبة تلك الفتاة واجهته اعتراضات من قبل أسرته التي ترغب في زواج ابنها من فتاة لم يسبق لها الزواج من قبل، حتى ولو على الورق! أين الاستقرار؟ أما السيدة «أ، م» فتجربتها تختلف قليلاً عن التجارب السابقة؛ فهي أرملة وأم لأربعة أبناء في مراحل دراسية مختلفة، وتعمل في وظيفة حكومية تدر عليها ما يكفيها وأبناءها من العوز والمال الحرام، وهي تمتلك من الجمال ما يكفي للفت نظر الجميع حولها وإبداء إعجابهم أمامها وخلفها، وهو الأمر الذي أحدث مشاكل عدة إثر غيرة النساء حولها منها، وجعلها موضع حديث متداول داخل وخارج البيوت، لذلك وافقت على الارتباط بزميلها في العمل، وهو متزوج وأب لثلاثة أبناء؛ للتخلص من جميع المضايقات التي تتعرض لها، وطلباً للاستقرار العائلي، إلا أن المشاكل بدأت تواجهها مرة أخرى برفض الزوجة الأولى القبول برغبة الزوج في الزواج من أخرى، وتركت له المنزل والأبناء وعادت إلى منزل أسرتها، فعجز الزوج بعد ذلك عن تحمل مسؤولية الأبناء والاعتناء بحاجاتهم، وطلب من زوجته الثانية جمع أبنائها وأبنائه في منزل واحد والاعتناء بهم، فرفضت «أ. م» هذا الطلب وآثرت طلب الطلاق بدلاً عن تحمل مسؤولية الزوج الجديد وأبنائه. اتفاقات واختلافات ومن جانب آخر التقت «الأهرام اليوم» بالدكتور محمد علي بلدو اختصاصي الأمراض النفسية والعصبية بمستشفى التيجاني الماحي، الذي تحدث عن الطلاق من الناحية النفسية، موضحاً أنه أحد الضغوط الاجتماعية والسيكولوجية الخطيرة التي تشكل هاجساً للأطباء. وفي رأي الدكتور بلدو أن معظم الزيجات باتت تقوم على مرجعية تقليدية، وحتى إن لم تكن كذلك؛ تقوم على انجذاب دون رؤية طبية مناسبة، وهناك مكاتب استشارية تسمى بمكاتب الأسرة السعيدة؛ تساعد الزوجين قبل الإقدام على الزواج في دراسة الاتفاقات والاختلافات النفسية والاجتماعية والبيولوجية؛ لمعرفة مدى التوافق بين الاثنين. أيضاً ازدياد هذه النسبة نتيجة لعدم التوافق النفسي، وعدم الاستعداد لدى الطرفين لتحمل الحياة الزوجية ومسؤولياتها وتكاليفها، إضافة إلى الضغوط الاجتماعية القاهرة، ووجود نسب كبيرة جداً من الكوارث والحروب الأهلية والنزاعات القبلية التي أدت إلى تفكك الأسرة وعدم وجود الود والمودة والرحمة التي أوصى بها المولى عز وجل ما بين الزوجين. وأشار في حديثه ل «الأهرام اليوم» إلى أن الطلاق قد يكون نتيجة الأمراض والأزمات والنزاعات النفسية، وأن ما يحدث لبعض الأشخاص من شعور بالحب وهم غير مهيئين للزواج؛ هذا الشخص يشعر بالحرمان العاطفي، وعند حدوث بوادر للشعور بالحب من جديد؛ يبدأ في الانفصال عن التجارب السابقة بحثاً عن مغامرة وعاطفة جديدة، وفي أحيان كثيرة قد يقوم الزوج بمناداة زوجته باسم آخر «ترسبات زوجية»، فالأثر النفسي للطلاق يؤدي إلى شعور بالصدمة والاكتئاب النفسي والتوتر والقلق وشعور الشخص بالدونية والنظرة السلبية إلى الشخص المطلَّق، والنظرة التي تواجهها المرأة أكثر إيلاماً من الرجل، ومن الناحية النفسية من أهم أسباب الأرق الليلي وفقدان الوزن وعدم الثقة في النفس واهتزاز الثقة في الآخرين، ومعظم ضحايا الطلاق ينتابهم شعور بالذنب خصوصاً إذا ما كان بين المطلقين أطفال؛ لأنهم لقمة سائغة للوقوع في الاضطرابات النفسية، مثل التمتمة والتبول اللا إرادي، وضعف التحصيل الأكاديمي، والخوف والقلق والمشي أثناء النوم، وقد تعود آثار الطلاق إلى مضاعفات وأمراض نفسية كثيرة، والمعالجة تتمثل في إنشاء عيادات متخصصة في استشارات ما قبل الزواج وإخضاع جميع راغبي الزواج إلى جلسات تأهيلية ونفسية وإرشادية، لذلك أيضاً لا بد من عمل خطوط هاتفية مباشرة، وهو ما يسمى ب Hot line الذي يساعد في حل المشاكل، وإذا حدث الطلاق؛ يجب تقديم الدعم النفسي السريع للطرفين، للزوج والزوجة، والتعامل مع أي انفعالات زائدة، ومن ثم إعادة تأهيل الشخص وإعداده بصورة جديدة لتصحيح تجربته مع الشخص الأول أو مع أي طرف آخر، أما الأطفال فتتم متابعتهم باستمرار مع الباحثة الاجتماعية لمحاولة تعويضهم الفاقد الأسري، كذلك لا بد من وجود المشرف الاجتماعي في المدرسة لمراعاة الجانب النفسي والاجتماعي للأطفال. ونلاحظ من إجراء دراسات على حالات المرضى النفسيين بالمستشفيات عالمياً؛ أن هناك ما بين 25 إلى 30% من إجمالي المرضى ارتبطت أمراضهم بالطلاق. تهديد للأسرة وفي ذات السياق جلست «الأهرام اليوم» إلى الأستاذة فوزية حسن سيد أحمد مديرة الإعلام والعلاقات العامة بوزارة التنمية الاجتماعية، التي ذكرت أن غياب الأسرة الكبيرة والممتدة من الحبوبات والأعمام والخالات داخل المجتمع الإسلامي، وتفكك الترابط الأسري من أهم أسباب ارتفاع معدلات الطلاق، ورغم أن الاختيار في السابق كان عن طريق الأسرة؛ إلا أن الاستقرار الزوجي كان أوفر مقارنة مع الوقت الحاضر، إذ أصبحت الأسرة صغيرة ومنعزلة نتيجة لذوبان الأسرة الممتدة وضغوط الحياة والفقر وازدياد متطلبات الأسرة، كل هذه الأسباب أدت إلى تفاقم المشاكل بين الزوجين، وفي حال حدوث الطلاق فإن آثاره تصبح كبيرة على الأسرة. وأكدت أن وزارة التنمية الاجتماعية رصدت العديد من المشاكل المرتبطة بالطلاق والتفكك الأسري بنسبة 90% من بينها مشاكل التشرد والتسول والعنف لدى الأطفال، ولوحظ أن المجتمع يعاني من نسبة طلاق كبيرة تخرج أجيالاً غير فاعلة في المجتمع، وبالرجوع إلى أصول ديننا وإعطاء الأولوية والاهتمام لأفراد الأسرة نقلل تلك الآثار ويمكن أن نخفض من معدلات الطلاق تدريجياً، وهناك ما يعرف بمتشردي الأثرياء وهم الأبناء المدللون مادياً وفاقدو الرعاية الأبوية من الأم والأب وهم أكثر عرضة للوقوع في شباك الجرائم والمخدرات. وختمت حديثها بقولها: «لا بد أن يقود مركب الحياة الزوجية الزوجان حتى لا تغرق»..!