مع بداية التسجيل لاستفتاء الجنوب؛ شهدت الساحة السياسية توترات ملحوظة بين شريكي الحكم، وصلت إلى مرحلة التشكيك في النوايا، على ضوء ضعف الإقبال على التسجيل في الشمال، حيث اعتبرت (الحركة) أن المؤتمر الوطني يريد تزوير رغبة الناخب الجنوبي في الشمال، فيما اتهم المؤتمر الوطني الحركة الشعبية بحرمان بعض الجنوبيين الذين تعتقد أنهم سيصوتون للوحدة؛ من التسجيل. هذه الاتهامات وما صاحبها من تصريحات صدرت من الجانبين مع ابتدار فترة التسجيل؛ دعت المراقبين إلى رسم صور مختلفة لمآلات الأوضاع القادمة، تجعل الباب مفتوحاً أمام كافة الاحتمالات، وللخروج من هذا الجدل؛ قام بعضهم بتقديم خيارات لإبعاد الأطراف من هذا الاستقطاب الحاد بين الوحدة والانفصال، الذي برز في الساحة، أو هكذا قال ل «الأهرام اليوم» رئيس تحرير صحيفة الأيام؛ الصحافي المخضرم محجوب محمد صالح، الذي قدم قراءة عميقة لواقع الأحداث، فإلى تفاصيلها. { على ضوء التوترات التي تسود الساحة السياسية هذه الأيام، كيف يمكن وصف صورة المشهد الآن؟ - الآن نحن وصلنا إلى مرحلة الاستفتاء، وهناك ظواهر أساسية تحكم المشهد السياسي. { ما هذه الظواهر؟ -الظاهرة الأولى تتمثل في أن الحركة الشعبية التي ظلت منذ أيام الحرب تنادي بالسودان الجديد الموحد، وترسل إشارات في هذه الاتجاه، مع اقتراب موعد الاستفتاء؛ غيرت هذه الإشارات، واتضح أن هناك تغيراً جذرياً في موقفها، حينما أصبحت تميل إلى الانفصال. { ما علاقة هذا الموقف بالساحة السياسية؟ - هذا الموقف يعتبر جديداً على الحركة السياسية، التي ظلت مقتنعة بأن مشروع الوحدة الجاذبة أقرب إلى الرؤية التي تطرحها الحركة الشعبية، لذلك موقفها الحاد نحو الانفصال كان مفاجئاً بالرغم من أن الحركة بررت لهذه الخطوة عندما قالت إن هذا الموقف جاء نتيجة لممارسات المؤتمر الوطني الذي لم يساعد على تحقيق الوحدة. { هل هذا التبرير كافٍ؟ - بصرف النظر عن هذا التبرير، الحركة الشعبية أصبحت تدعو إلى الانفصال، والآن تبسط سيطرتها على الجنوب، وسلفاكير حصل في الانتخابات الأخيرة على «93%» من الأصوات، وهذا يعني أنه يجد الدعم من القاعدة الجنوبية، وبغض النظر كذلك عن رأينا في ما حدث في الانتخابات، نحن وصلنا إلى هذه المرحلة في وقت أصبح فيه التوجه الانفصالي للحركة بائناً. { ماذا عن الظاهرة الأخرى؟ - المؤشر الثاني هو تزايد عدم الثقة بين الشريكين. { هذا ليس جديداً. - نعم، هذا الأمر ليس جديداً، فمنذ الفترة الانتقالية شهدت الساحة توترات بين الشريكين وانعدام ثقة، لكن الآن وصل ذروته حينما أصبح الخلاف حول الوحدة والانفصال واضحاً، وأظهرت الحركة الشعبية انحيازها لخيار الانفصال، فهذه هي الخلفية التي تدور حولها معركة الاستفتاء. { ألا تعتقد أن هذه المعركة التي تدور حول التسجيل قد تجاوزها الزمن؟ - موضوع الاستفتاء منذ أيام إجازة القانون، كان محل جدل، حيث نشب خلاف كبير حول المادة «25» التي تحدثت عن مكان تصويت الناخب، والبرلمان آنذاك أجاز قانون الاستفتاء بعد إسقاط هذه المادة، والحركة الشعبية قاطعت وصارعت من أجلها؛ لأنها كانت تريد أن يكون التصويت في الجنوب. ومنذ ذلك الحين كان هذا بمثابة مؤشر على أن عملية التسجيل والتصويت ستكون محل خلاف، امتداداً للتباينات التي شهدناها في نهاية العام السابق حول المادة «25» التي تتحدث عن أهلية الناخب، و«26» التي تحدثت عن إثبات الشخصية، والمادة «27» عن مراكز التسجيل والاقتراع، وحددت هذه المادة ثلاثة أنماط من المسجلين، اثنان منهما لا بد أن يسجلا في الجنوب، والثالث يمكن أن يسجل في أي مكان، هذا يؤكد أن الخلاف حول التسجيل بدأ منذ نهاية العام الماضي عندما تم عرض قانون الاستفتاء، وهذه المادة أسقطت ثم أعيدت بطريقة قد يشك الناس الآن في دستوريتها. { في أي إطار يمكن تفسير التصعيد الذي برز بين الشريكين؛ الذي تزامن مع بداية مرحلة التسجيل؟ - الآن المؤتمر الوطني يعتقد أن الحركة الشعبية ستهيمن على أصوات كل ناخبي الجنوب في الشمال بصورة أو بأخرى، لذلك حاولت بقدر الإمكان التقليل من هذه المسألة بطريقة مشروعة باسم العودة الطوعية، ووفرت الإمكانيات لعدد كبير منهم، فالمشهد الآن أصبح فيه استقطاب حاد بين الوحدة والانفصال، الشمال ينادي بالوحدة، والجنوب ينادي بالانفصال، والحركة الشعبية تحاول توحيد الرأي الجنوبي حول الانفصال، وتبدو الساحة أكثر توتراً لأننا اقتربنا من النهاية. { هل سيظل هذا التوتر حتى لحظة الاقتراع؟ - سيظل قائماً، ما لم يتحرك الطرفان لاحتوائه، باتفاق على الأقل يضمن أكبر قدر من النزاهة والحرية لكل المراحل، من التسجيل حتى الاقتراع، وواضح جداً أن هناك صعوبات بسبب الشكوك وتصاعد التصريحات، الأمر الذي جعل الموقف متوتراً، لكن إذا تفاوضت الأطراف بجدية حول القضايا المشتركة وأدركت عدم وجود بديل غير الحوار والتفاهم؛ يمكن أن يقود هذا الأمر إلى إخراج الناس من مأزق الاستقطاب الحاد بين خياري الوحدة والانفصال، فهناك مواقع دستورية بينهما يمكن أن تؤطر لعلاقة مستقبلية بين الشمال والجنوب، لكن الناس سجنوا أنفسهم في هذا الاستقطاب «وحدة، انفصال» دون التفكير في المنطقة الوسطى التي تبدو رمادية لكن بها مساحة كبيرة تتمثل في الأصول المشتركة والديون والعلاقات التجارية. { وكأنك تشير إلى أن النتيجة أصبحت محسومة؟ - من ناحية عملية نتيجة التصويت حسمت لصالح الانفصال في اللحظة التي قررت فيها الحركة الشعبية دعم هذا الخيار. { لكن لم تُصدِر بياناً رسمياً؟ - صحيح لم يصدُر قرار رسمي من مؤسسات الحزب، لكن تصرفات قياداتها تمضي في هذا الاتجاه وسبق أن أعلن رئيسها قبل ذلك تصويته للانفصال، وفي الجانب الآخر الشمال ما زال متمسكاً بالوحدة. { كيف يمكن إحداث اختراق أو اقتراب بين هذه الرغبات المتباينة؟ -الشيء الوحيد الذي يمكن أن يساعد في معالجة الأوضاع هو اعتراف القوى الشمالية بعدم وجود مجال للوحدة واقتناعها بضرورة الجلوس للتفاكر حول الوسائل التي يمكن أن تجعل الانفصال سلساً حال وقوعه. { أليس هناك حل آخر؟ - أبداً، لأن في الظروف الحالية لا تستطيع هذه القوى تغيير القرار الجنوبي الداعي للانفصال إلى قرار وحدة، هناك استحالة، لكن هناك إمكانية لحوار وطني مسؤول يرتب للانفصال بطريقة سلسة، والاتفاق على شكل العلاقة، حتى تتم مراعاة القضايا المشتركة المتداخلة والمتشابكة، مثل الديون والأصول وتصدير النفط والمواطنين في الشمال والجنوب، وإذا تجاوزوا المواجهة وجلسوا لحل هذه القضايا سيستبين لهم شكل العلاقة المستقبلية، فالصلة المستقبلية الدستورية بشكل الوحدة الحالي لا مجال لها، لكن إذا سادت الحكمة؛ يمكن أن يقول الشمال لا داعي للاستفتاء وقد قبلنا بما يريد الجنوب. { ما مدى إمكانية تحقيق مثل هذا الاحتمال؟ - هذا احتمال بعيد، لكن إذا كان هناك رجال دولة في الطرفين لديهم سعة أفق؛ يمكن الوصول إلى هذا التفكير. { لماذا اعتبرتَ احتمال أن يقول الشمال «لا داعي للاستفتاء وقد قبلنا بما تريدون»؛ احتمالاً بعيداً؟ - لأنه، تاريخياً، يصعب على أي شخص في الشمال التخلي عن مفهوم الوحدة، والمؤتمر الوطني لا يريد أن يتحمل مسؤولية تقسيم السودان، ولهذا السبب يصارع من أجلها حتى اللحظة الأخيرة، وأنا لا أشك في أن كل قيادات المؤتمر الوطني على قناعة بعدم وجود مجال لتحقيق الوحدة، لكن يصعب عليهم الاعتراف والقبول، ولو أن المؤتمر الوطني دعا القوى السياسية؛ كان يمكن أن يتم اتفاق جماعي حينئذ، المفهوم الوطني نفسه سيمثل حماية لمفهوم العلاقة المستقبلية بين الشمال والجنوب، والجنوب يحتاج إلى هذا الأمر كذلك، والغريب أن الجنوب بادر قبل الشمال وأقام الحوار الجنوبي الجنوبي، ومتوقع أن يقوم بجولة جديدة قريباً مع اقتراب لحظة الاستفتاء، امتداداً للحوار الذي بدأه، ويمضي به خطوة إلى الأمام. { لماذا لم يسجل الجنوبيون في الشمال؟ - الجنوبيون في الشمال نوعان، نوع مقتنع برؤية الحركة الشعبية وهذه الشريحة أعدادها كبيرة ومعظمهم سافر ليسجل ويصوت في الجنوب، الشريحة الأخرى أميل للوحدة، لكنها تخشى من إظهار هذه الرغبة حتى لا تبدو وكأنها خائنة للإجماع الوطني الجنوبي أو عميلة للشمال، لذلك هذه الشريحة فضلت الابتعاد عن الساحة مؤقتاً حتى تنجلي الأمور، وتوجد شريحة أخرى لديها مصالح في الشمال وتريد المحافظة على العلاقة دون الظهور في الساحة. { هل تتوقع ظهور هذه الشريحة أو دعمها للوحدة في الاستفتاء؟ - المؤتمر الوطني لم يساعد هؤلاء ولا أولئك بتصريحاته التي صدرت من بعض القيادات، حول مسألة الجنسية والمواطنة، فأصبحت هذه المجموعة بين «نارين»، من ناحية تريد البقاء في الشمال لكن الإشارات التي أرسلت لها تظهر عدم رغبة الشمال في بقائها، وفي الناحية الأخرى دعمها للوحدة وظهورها سيجعلها أمام الإجماع الجنوبي بمثابة الخائن، لذلك انسحابها بعيداً عن الأضواء أمر طبيعي. { هذه المجموعة لا تريد الخروج على الإجماع، أم أنها تحاول التمهيد لوجود موطئ قدم في الجنوب بعد الانفصال؟ - الحركة الشعبية نجحت في توحيد الرأي العام الجنوبي حتى أصبح الخروج عليه الآن مشكلة، وهذا الرأي الجامع يشمل قبائلهم وقواعدهم، وفيه مصدر قوتهم، والخروج عليه يعني الخروج على الإجماع، أو رفض الاستقلال، لأن الجنوب يتحدث الاستقلال وليس الانفصال. { على ماذا استندتَ في هذا التحليل؟ هل هناك تجارب مشابهة؟ - نحن مررنا بمرحلة مشابهة في عام 1954 قبل الاستقلال، وكان حينئذ الحزب الوطني الاتحادي نال الأغلبية المطلقة لأول وآخر مرة في تاريخ السودان، وشكل حكومته لوحده، وكان شعاره وحدة وادي النيل، لكن الرأي العام آنذاك انقلب على هذه الوحدة وانحاز إلى الاستقلال، ووقتئذ أي إنسان كان يقف في صف الوحدة تراجع ولم يستطع رفع صوته لأن الاتجاه العام كان لصالح الاستقلال، الآن في الجنوب الصوت الغالب صوت الانفصال، ويمارَس ضغطٌ على الآخرين لتحجيم أصواتهم مثلما استطاع دعاة الاستقلال في عامي 1954،1955م تحجيم أصوات المنادين بالوحدة. { ما تفسيركم لسر صمت الأحزاب المعارضة وعدم دخولها في زمرة صراع التسجيل ومع من تقف في هذا الصراع؟ أمع الحركة الشعبية أم المؤتمر الوطني؟ - المعارضة لا يمكن أن تدعو للانفصال، فهي حريصة على الوحدة مثل المؤتمر الوطني، لكن تعتقد أن المؤتمر الوطني لم يعطها المساحة الكافية ويريد الآن استغلالها في مسألة دعم الوحدة لمواجهة الحركة الشعبية، دون التطرق إلى القضايا التي تهمها مثل قضية التحول الديمقراطي، وأعتقد أنه جاء الوقت لخروج المؤتمر الوطني من هذه القوقعة، وتقدم المعارضة خطوة، فلا بد أن يغير المؤتمر الوطني سلوكه وتتجاوب المعارضة مع ذلك.