النائب العام للسودان في سجن الدامر    شاهد بالصور.. ما هي حقيقة ظهور المذيعة تسابيح خاطر في أحضان إعلامي الدعم السريع "ود ملاح".. تعرف على القصة كاملة!!    مساعد البرهان يتحدث عن زخم لعمليات عسكرية    البرهان يطلع على أداء ديوان المراجع العام ويعد بتنفيذ توصياته    تقارير صادمة عن أوضاع المدنيين المحتجزين داخل الفاشر بعد سيطرة الدعم السريع    لقاء بين البرهان والمراجع العام والكشف عن مراجعة 18 بنكا    السودان الافتراضي ... كلنا بيادق .. وعبد الوهاب وردي    د.ابراهيم الصديق على يكتب:اللقاء: انتقالات جديدة..    إبراهيم شقلاوي يكتب: يرفعون المصاحف على أسنّة الرماح    لجنة المسابقات بارقو توقف 5 لاعبين من التضامن وتحسم مباراة الدوم والأمل    المريخ (B) يواجه الإخلاص في أولي مبارياته بالدوري المحلي بمدينة بربر    الهلال لم يحقق فوزًا على الأندية الجزائرية على أرضه منذ عام 1982….    شاهد بالصورة والفيديو.. ضابطة الدعم السريع "شيراز" تعبر عن إنبهارها بمقابلة المذيعة تسابيح خاطر بالفاشر وتخاطبها (منورة بلدنا) والأخيرة ترد عليها: (بلدنا نحنا ذاتنا معاكم)    لماذا نزحوا إلى شمال السودان    شاهد بالصور.. المذيعة المغضوب عليها داخل مواقع التواصل السودانية "تسابيح خاطر" تصل الفاشر    جمهور مواقع التواصل بالسودان يسخر من المذيعة تسابيح خاطر بعد زيارتها للفاشر ويلقبها بأنجلينا جولي المليشيا.. تعرف على أشهر التعليقات الساخرة    المالية توقع عقد خدمة إيصالي مع مصرف التنمية الصناعية    أردوغان: لا يمكننا الاكتفاء بمتابعة ما يجري في السودان    وزير الطاقة يتفقد المستودعات الاستراتيجية الجديدة بشركة النيل للبترول    أردوغان يفجرّها داوية بشأن السودان    وزير سوداني يكشف عن مؤشر خطير    شاهد بالصورة والفيديو.. "البرهان" يظهر متأثراً ويحبس دموعه لحظة مواساته سيدة بأحد معسكرات النازحين بالشمالية والجمهور: (لقطة تجسّد هيبة القائد وحنوّ الأب، وصلابة الجندي ودمعة الوطن التي تأبى السقوط)    إحباط محاولة تهريب عدد 200 قطعة سلاح في مدينة عطبرة    السعودية : ضبط أكثر من 21 ألف مخالف خلال أسبوع.. و26 متهماً في جرائم التستر والإيواء    الترتيب الجديد لأفضل 10 هدافين للدوري السعودي    «حافظ القرآن كله وعايشين ببركته».. كيف تحدث محمد رمضان عن والده قبل رحيله؟    محمد رمضان يودع والده لمثواه الأخير وسط أجواء من الحزن والانكسار    وفي بدايات توافد المتظاهرين، هتف ثلاثة قحاتة ضد المظاهرة وتبنوا خطابات "لا للحرب"    أول جائزة سلام من الفيفا.. من المرشح الأوفر حظا؟    مركزي السودان يصدر ورقة نقدية جديدة    برشلونة ينجو من فخ كلوب بروج.. والسيتي يقسو على دورتموند    "واتساب" يطلق تطبيقه المنتظر لساعات "أبل"    بنك السودان .. فك حظر تصدير الذهب    بقرار من رئيس الوزراء: السودان يؤسس ثلاث هيئات وطنية للتحول الرقمي والأمن السيبراني وحوكمة البيانات    ما الحكم الشرعى فى زوجة قالت لزوجها: "من اليوم أنا حرام عليك"؟    غبَاء (الذكاء الاصطناعي)    مخبأة في باطن الأرض..حادثة غريبة في الخرطوم    رونالدو يفاجئ جمهوره: سأعتزل كرة القدم "قريبا"    صفعة البرهان    حرب الأكاذيب في الفاشر: حين فضح التحقيق أكاذيب الكيزان    دائرة مرور ولاية الخرطوم تدشن برنامج الدفع الإلكتروني للمعاملات المرورية بمركز ترخيص شهداء معركة الكرامة    السودان.. افتتاح غرفة النجدة بشرطة ولاية الخرطوم    5 مليارات دولار.. فساد في صادر الذهب    حسين خوجلي: (إن أردت أن تنظر لرجل من أهل النار فأنظر لعبد الرحيم دقلو)    حسين خوجلي يكتب: عبد الرجيم دقلو.. إن أردت أن تنظر لرجل من أهل النار!!    الحُزن الذي يَشبه (أعِد) في الإملاء    السجن 15 عام لمستنفر مع التمرد بالكلاكلة    عملية دقيقة تقود السلطات في السودان للقبض على متّهمة خطيرة    وزير الصحة يوجه بتفعيل غرفة طوارئ دارفور بصورة عاجلة    الجنيه السوداني يتعثر مع تضرر صادرات الذهب بفعل حظر طيران الإمارات    تركيا.. اكتشاف خبز عمره 1300 عام منقوش عليه صورة يسوع وهو يزرع الحبوب    (مبروك النجاح لرونق كريمة الاعلامي الراحل دأود)    المباحث الجنائية المركزية بولاية نهر النيل تنهي مغامرات شبكة إجرامية متخصصة في تزوير الأختام والمستندات الرسمية    حسين خوجلي يكتب: التنقيب عن المدهشات في أزمنة الرتابة    دراسة تربط مياه العبوات البلاستيكية بزيادة خطر السرطان    والي البحر الأحمر ووزير الصحة يتفقدان مستشفى إيلا لعلاج أمراض القلب والقسطرة    شكوك حول استخدام مواد كيميائية في هجوم بمسيّرات على مناطق مدنية بالفاشر    السجائر الإلكترونية قد تزيد خطر الإصابة بالسكري    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الأسباب الحقيقية لتخلف الجنوب
نشر في الأهرام اليوم يوم 26 - 11 - 2010

د. واني تومبي لاكو لوكيتاري / ترجمة - محمد الفاتح زيادة
عدم مواكبة التقاليد الاجتماعية لأنماط الاقتصاد الحديث 1 - 2
يحق لنا القول إن فلسفة الإنتاج وسط النماذج الاجتماعية في جنوب السودان، قد ساهمت كثيراً في تخلف الجنوب كتجمع بشري أو رقعة جغرافية. كما يمكن القول إنه لا الاستعمار ولا الحكومات الوطنية المتعاقبة يمكن لومها 100% على التخلف السائد في الجنوب اليوم، وإنه لمن الأهمية بمكان أن يحاول المثقفون الجنوبيون فك طلاسم أسباب تخلف الجنوب، وعندها فقط يمكننا أن نصل إلى نتيجة معقولة نستطيع بموجبها أن نقرر ما إذا كان بقاؤنا ضمن السودان الموحد هو السبب لتخلف الجنوب كرقعة جغرافية أو تجمع بشرى. هذه الأمور يجب التصدي لها الآن وفي الوقت الراهن، قبل أن نطلب من أهلنا الجنوبيين إتخاذ قرار خاطئ في الاستفتاء الوشيك. إنه من الضروري أن يعلموا الحقيقة حتى لا يخيب أملهم بعد اتخاذ قرار الانفصال، الذي قد يرون فيه «عين الخطأ» أنه بمجرد حدوثه ستفتح لهم تلقائياً أبواب التنمية والرخاء في جنوب السودان، وهذا ما يبدو أنه الاتجاه الذي يحاول البعض أن يجر إليه رأي شعب الجنوب، وبعض الكتاب يجادل وكأن الانفصال هو المفتاح السحري لتنمية جنوب السودان، وهذا ما يبدو أنه الاتجاه الذي يحاول البعض أن يجر إليه رأي شعب الجنوب، وبعض الكتاب يجادل وكأن الانفصال هو المفتاح السحري لتنمية جنوب السودان وتحديثه، بل إن البعض يتمادى إلى الزعم بأنه بمجرد الانفصال سوف تصبح رمبيك مثل لندن، وكيف ذلك؟ يا للحزن. كيف لرمبيك أن تصبح مثل لندن بمجرد انفصال الجنوب عن بقية أجزاء السودان، يبدو جلياً أن هواة النقاش على هذا النحو يجهلون كيفية تطور لندن عبر السنين حتى صارت إلى ماهي عليه اليوم، فقط قارن بين أحد أهالي لندن العاديين من حيث مفهومه للتنمية وبين أحد أهالي رمبيك لتدرك مدى الفجوة بين الاثنين، إن هذا حلم سياسي تحت ضوء الشمس، ونسعى لاستبعاده من عقول أهلنا في الجنوب، إن الاصرار على إمكانية تحقيق هذا الحلم إلى واقع ملموس بعد الاستفتاء سوف يصيب الجنوبيين في مقتل بعد أن يستيقظوا من أثر المخدر الذي تجرعوه. وبعد اكتشاف الأكذوبة يصبح لا مناص من الحرب الأهلية التي قد تستمر لعدة قرون. وهذه الحرب لن تقف عند أعتاب الجنوب فحسب، بل ستمتد لسائر الإقليم المتاخم للجنوب، مهدداً السلم والأمن العالميين، مما يستدعي تدخل مجلس الأمن تحت الفصل السابع لفرض الأمن والنظام.
وعوداً إلى أثر العادات المتجذرة في الجنوب على الانتاج وتداعيات ذلك على عدم تنمية الجنوب كرقعة جغرافية أو تجمع بشري، يجدر بنا في البداية أن نعرج على نمط الانتاج في الجنوب. يعتمد نمط الإنتاج في الجنوب على تربية الحيوان «قطاع رعوي وغيره»، وصيد السمك والحيوانات الأخرى، وجمع المتساقط من الثمار الناضجة، والفلاحة والصناعات اليدوية، هذه هي الأنماط الزراعية التي يعتمد عليها أكثر من 90% من الجنوبيين، علماً بأن العائد من النمط الإنتاجي لا يفي بأكثر من إبقاء الفرد على قيد الحياة. بمعنى آخر، إن الإنتاج موجه لإطعام أفراد الأسرة. ويمكننا القول إن غالبية الجنوبيين ليس لديهم كبير اهتمام بتراكم رأس المال المعروف في المجتمعات الاقتصادية الحديثة، وهذا لا يعني أن المنتجين التقليديين في الجنوب ليست لهم الخبرة في توفير جزء من انتاجهم. نعم، لهم إلمام بذلك، ولكن في إطار الأثر الاجتماعي على الاقتصاد، هذا ما جرى عليه الحال منذ آلاف السنين، حيث عاش بتلك الطريقة، ولا يزال الكثيرون يعيشون بنفس الإسلوب إلى يومنا هذا، إنهم عاشوا على ذلك قبل دخول العرب للسودان وقبل وصول الرجل الأبيض للسودان. هذه حقيقة معاصرة وتاريخية في نفس الوقت والسؤال هو: هل في وسع الانفصال عن بقية أجزاء السودان أن يغير من هذه الحقيقة بين عشية وضحاها؟ الإجابة هي «لا» بكل تأكيد، وهل يستطيع الانفصال تغيير هذا الحال في مدى مائة عام؟ الإجابة «لا» وعليه فهل قام الحكام الحاليون للجنوب والمثقفون الجنوبيون بإخبار الأهل في الجنوب أن عليهم تغيير نمط إنتاجهم حتى تلحق رمبيك بمستوى لندن؟ الإجابة قطعاً «لا» . وهل قام الحكام الحاليون للجنوب والمثقفون الجنوبيون بتغيير نمط حياتهم حتى يمكن انعكاس ذلك على حياة المواطنين؟ الإجابة «لا». لقد أخبرني صديق من قدامى السياسيين في الجنوب أنه قاد سيارته في إحدى الأمسيات لتجاذب أطراف الحديث مع صديق له يحتل منصباً وزارياً. وعند وصوله لمنزل الوزير قيل له إن صاحب السعادة ذهب ليتفقد حيواناته في الأسطبل. ولدهشة السياسي أنه لدى وصوله للأسطبل وجد السيد الوزير يستمتع بكوب من اللبن الطازج مع بعض ضيوفه وهو مجرد من كل ملابسه، أي عارياً كما ولدته أمه، كما أن الضيوف كانوا أيضاً عراة، مما تقدم نستطيع القول إن نمطنا الاجتماعي والثقافي هو العقبة في سبيل انتهاج طرق إيجابية وتقدمية تسهم في تطوير المجتمع الجنوبي. وعلى سبيل المثال فهل في وسع الانفصال عن بقية أجزاء السودان أن يسهم في اصلاح أمثال الوزير المذكور حتى ينتقل أثر ذلك على سائر المواطنين؟ أم يا ترى سيستمر الحال كما هو عليه، وبالتالي نفرض على المواطنين نموذجاً ضاراً من الثقافة والسلوك الاجتماعي الذي يأتي بنتائج على عكس ما نحن في حاجة إليه من أجل تطوير وتنمية الجنوب ضمن السودان الموحد؟ وعلى سبيل المثال ، فإن الجنوبيين اغنياء في مجال الثروة الحيوانية ومنتجاتها لدرجة أنه إذا تمت إدارة هذه الثروة على أساس علمي، فإن العائد المادي على ملاك الثروة الحيوانية ضمن السودان الموحد يكون أكثر من العائد حين الانفصال عن بقية أجزاء السودان، لسبب بسيط هو أن السوق في السودان الموحد أكبر من السوق في حدود الجنوب وحده، هل هنالك من دليل على أن العيش ضمن السودان الموحد يمنع الاستغلال الأمثل لهذه الثروة الحيوانية؟ وهل هنالك من دليل على أن طريقة ادارة الثروة الحيوانية بالشكل الحالي ناجم عن وجود الجنوب ضمن السودان الموحد؟ وهل هنالك من دليل على أن الوزير المذكور في المثال أعلاه قد تصرف بذلك الشكل المخزي لأنه يعيش في جنوب ينتمي للسودان الموحد؟ وهل نتخذ الثروة الحيوانية في الجنوب للوجاهة الاجتماعية لا غير لأننا نعيش في جنوب ينتمي للسودان الموحد؟ عليه فإنه ينبغي على ملاك الثروة الحيوانية في الجنوب ألا يسعوا نحو الانفصال عن بقية أجزاء السودان حتى يتسنى لهم استثمار هذه الثروة والاستفادة منها بطريقة أفضل، ومن المعلوم أن المنشغلين بالثروة الحيوانية في الجنوب يشكلون عدداً كبيراً وعليه فإن حسن استخدام طاقاتهم ومجهوداتهم سيعود عليهم وعلى أبنائهم بنفع أكبر، فالجنوبيون في غنى عن الانفصال لتنمية هذه الثروة الحيوانية.
إن الاستغلال الأمثل للثروة الحيوانية جدير بانتشال الجميع في الجنوب من هاوية الفقر الذي يرزحون تحت وطأته، وهنالك حالات من الفقر والتخلف لا تحتاج للمال بقدر حاجتها لحسن الإدارة حتى تلحق بركب التقدم، كما أن هنالك حالات من العجز البشري والمعاناة لا تتطلب سوى تغيير النمط الثقافي والاجتماعي للضحايا حتى يتخلصوا من قبضة ذلك العجز وتلك المعاناة. هذه وأمثالها هي القضايا التي ينبغى علينا الاهتمام بها ومعالجتها، بدل أن نمني أهلنا في الجنوب كذباً بأرض الشهد واللبن التي ستظهر لهم بمجرد الانفصال عن بقية أجزاء السودان الأخرى؟. وبالنسبة للعاملين في مجال صيد الاسماك وصناعتها، ما هو نوع التحسن الذي سيطرأ عليهم حال انفصالهم عن بقية أجزاء السودان؟ لقد ظل هؤلاء القوم يعملون بهذه الطريقة البدائية في الصناعة السمكية منذ آلاف السنين، فهل من دليل على أن وجودهم ضمن السودان الموحد هو الذي جعلهم يعيشون بهذه الطريقة البدائية؟ وهل من دليل على أن جنوب السودان سوف يجد الرخاء فور انفصاله عن بقية أجزاء السودان؟ وهل وقع اختيار هؤلاء القوم على هذا النمط من صيد الأسماك لأن السودان كدولة فرض عليهم ذلك؟ إننا نسوق كل هذه الأسئلة لأن ملايين الجنوبيين يرزحون تحت وطأة الفقر ولا يدرون كنه الأسباب التي تجعلهم فقراء. هنالك البعض الذي يزعم أن آخرين خارج جنوب السودان هم المسؤولون عن اتباعهم هذه الطرق البدائية في الصيد. بل هنالك من يزعم أن فقرهم ناجم عن دولة السودان التأريخية التي أرادت لهم أن يعيشوا فقراء أبد الدهر، من المؤكد أنه لم يتم إخبارهم أن بعض العوامل الاجتماعية والثقافية هي التي جعلتهم يعتمدون على صيد الأسماك كوسيلة لكسب العيش، وأن نفس هذه العوامل هي التي تمنع تحررهم من هذا النمط الانتاجي البائس، كما لم يتم إخبارهم أن الجنوب يذخر بثروات لو أحسن استغلالها لعادت عليهم بالنفع الكبير دون الحاجة لشغل أنفسهم بهاجس الانفصال عن بقية أجزاء السودان، ولم يتم إخبارهم أن بعض ذويهم من الجنوبيين جنوا عليهم وتسببوا في معاناتهم أكثر من الاستعمار أو دولة السودان، على أنهم يحاطون علماً اليوم وكل يوم أن السبب الأول لمعاناتهم وفقرهم ناجم عن دولة السودان والاستعمار. وعليه فإن هذه العناصر الخبيثة تتطلب منهم المسارعة نحو الانفصال عن بقية أجزاء السودان حتى يتحرروا من مزاولة الصيد التقليدي للسمك. هذا لعمري لي لعنق الحقائق السياسية لتضليل هذه الفئة من البشر. وعلى المثقفين الجنوبيين أن يهبوا لتصحيح هذا الفهم الخاطئ وقيادة الأهل نحو مصلحتهم الحقيقية، وإلى جميع صائدي الأسماك وجامعيه في الجنوب أقول إن الإستعمار ودولة السودان لم يجعلاكم تتبعون هذه الطرق البدائية في الإنتاج، ولكن النمط الثقافي والاجتماعي السائد لديكم هو المسؤول عن ذلك، ومن واجبنا معشر المثقفين الجنوبيين أن نبصّر الأهل في الجنوب بأن الاستعمار والحكومات الوطنية المتعاقبة على السودان تتحمل جزءاً من وزر ظاهرة التخلف في الجنوب، ولكن بكل تأكيد لا يقع كل اللوم عليهم بقدر ما هو على النمط الثقافي والاجتماعي لديكم، وقد يجادل البعض بأنه لا يوجد اليوم في الجنوب صائدو أسماك كما هو مذكور أعلاه. إن كاتب هذه السطور يؤكد على وجودهم. ولكن ظروف الحرب جعلت الأمر صعباً عليهم، كما أن وجود الألغام بعد انتهاء الحرب سيسهم في ذلك أيضاً، هؤلاء النفر من الجنوبيين يحتاجون لمن يأخذ بأيديهم ليوضح لهم ماهو المطلوب منهم في يوم الاستفتاء، حيث إن ذهابهم إلى صناديق الاقتراع خلال 4 سنوات ليقرروا في أمر الانفصال لهو خداع وظلم لهم في نفس الوقت، إذ أنهم سوف يخرجون مما هم في حاجة إليه ، وهو السلام والاستقرار. إنهم في حاجة إلى من يقودهم للاستقرار مهما اطلقت عليها من أسماء دولة تقوم نتيجة لتفكير مريض ومتعجل نحو الانفصال باعتباره البلسم الشافي لتخلف الجنوب، وفي حالة حدوث الانفصال فإن معاناة هؤلاء النفر سوف تستمر إلى ما لا نهاية. على المثقفين الجنوبيين أن يتحلوا بالرحمة تجاه الأهل بالجنوب وأن يوظفوا علمهم ليوضحوا للأهل أن عدوهم فيما يتعلق بالتخلف ليس كون وجودهم ضمن سودان موحد. وعلى المثقفين أيضاً أن يسخروا كل طاقاتهم لإقناع المتشككين أن عدوهم في ما يختص بالتخلف هو قيمهم الثقافية والاجتماعية التي توارثوها. هنالك البعض الذي يرى أن السودان الجديد هو أخذ المدينة إلى القرية، بينما يرى البعض الآخر أن تنمية الريف تعتمد على التغيير الطبيعي لبيئة الريف. وهذا خطأ شائع لدى الكثيرين الذين لا يفقهون ماهية التنمية الريفية، يظل الانسان هو العمود الفقري للتنمية الريفية، حيث يمكنك تشييد ناطحات سحاب في رمبيك لتقلد بها مباني لندن، ولكن انسان رمبيك لن يستطيع التصرف مثل انسان لندن وهذا هو المحك، وفي الإمكان تشييد أحدث دورات المياه في جوبا، ولكن المواطنين سيظلون يقضون حاجتهم في العراء ولن يكون في وسعك لومهم. التنمية شيء مختلف عن إقامة مبان حديثة، وهذا مهم للغاية لمحاصرة أغنية الانفصال الخطرة، إن في إمكانك حمل الناس على التصويت للانفصال، ولكن لن تمنحهم القدرة على حكم أنفسهم بصورة متسقة في نظام ديمقراطي كما هو الحال في الدولة الحديثة، والتي صوتوا للانفصال من أجل قيامها، تستطيع جعل الناس يصوتون للانفصال ولكن ليس في وسعك منعهم من تخريب الدولة الجديدة، لأنهم لا يدرون كيف يعترفون بها، إنهم لا يعترفون بها لأنها في رأيهم لا يوجد شبه بينها وبين الدولة التي تدافع عن مصالحهم. إنها لحقيقة أن نمط الإنتاج الذي تمت الإشارة إليه يظل بين الأسباب الرئيسة المؤدية إلى تخلف الجنوب، وذلك إلى جانب الأسباب الأخرى التي فاقمت الأمر، والجدير بالذكر إن نمط الإنتاج هذا تم تناوله في إطار النموذج الاجتماعي السائد في جنوب السودان. كما يجدر بنا التنويه إلى أن السبب الذي يدعونا إلى استخدام هذا النوع من التحليل هو رغبة المؤلف في وضع كافة العوامل المتسببة في تخلف الجنوب على طاولة البحث ثم تناولها من مختلف المنظورات، وإنه من الأهمية بمكان أن نوضح للأهل في جنوب السودان بجلاء تام، أن هاجس الانفصال عن بقية أجزاء السودان ليس هو العلاج لمشكلة التخلف وعدم التنمية في الجنوب.
لعل خير مثال لتخلف نمط الإنتاج في الجنوب ما يعرف ب«زراعة الكفاف الإعاشية» والتي ساهمت بقدر وافر في عدم تنمية الجنوب وتخلفه ، وزراعة الكفاف الإعاشية تكاد لا تفي إلا بالحاجيات الأساسية البسيطة لإنسان الجنوب. ونفس الأسئلة التي طرحناها سابقاً تصلح للطرح هنا أيضاً، وذلك ليكون نقاشنا من منظور إيجابي وعليه فهل في الإمكان الجزم بأن تخلف الجنوب كمنطقة جغرافية ومجموعة بشرية ناجم عن وجود الجنوب ضمن السودان الموحد؟ وهل هنالك تأكيد بشكل قاطع أنه بمجرد تكوين دولة الانفصال في الجنوب فإن زراعة الكفاف الإعاشية سوف يتم تحويلها تلقائياً إلى زراعة حديثة مميكنة، مما يجعل صغار الزراع منتجين كباراً للغذاء الذي سيتم تصديره إلى كبرى الأسواق العالمية؟ وبالتالي ينعم صغار الزراع برغد العيش وينتقلوا من حياة الكفاف إلى حياة الوفرة والرفاهية؟ وهل من دليل مادي منطقي ومقنع لصغار الزراع هؤلاء أن فقرهم المدقع الذي يرزحون تحت وطأته يمكن إرجاع أسبابه إلى وجودهم ضمن السودان الموحد؟ وبينما تظل زراعة الكفاف الإعاشية نوعاً من النشاط الاقتصادي، فإننا ندرك أن القرارات المتخذة في هذا الإطار ترجع إلى نظام القيم الاجتماعية والثقافية السائدة وهذه القيم لا تؤثر فقط على نمط الإنتاج، ولكنها تؤثر أيضاً على نمط الاستهلاك والنظم الأخرى المتعلقة بكيفية استخدام قيمة الطعام. وإذا كان هنالك تساؤل عن تبادل قيمة الطعام المنتج بهذه الكيفية فقد لا يندهش المهتمون باقتصاد صغار الزراع. إن هؤلاء النفر لهم كبير اهتمام باستخدام قيمة الطعام أكثر من الاهتمام بكيفية تبادل هذه القيمة. وبينما يظل ما ذكرناه في هذا السياق صحيحاً فكيف سيكون في وسع اتفاقية السلام الشامل أن تتولى أمر تحسين الأحوال المعيشية لهؤلاء الزراع؟ إن أمر تقرير المصير يجب أن نفهمه في إطار سعادة هؤلاء الناس وبقدر التحسن الذي طرأ على حياتهم. إن تقرير المصير ليس دائماً مرادفاً لعملية سلخ الأراضي من نطاق دولة ما ولا يكفي أن نحاضر زراع الكفاف هؤلاء عن الاستفتاء إذ كيف يمكنهم تحويل الاستفتاء إلى طعام واحتياجات أخرى من أجلهم ومن أجل أبنائهم. وإذا كان حكام الجنوب الحاليون لا يستطيعون توفير السلام والأمن لمثل هؤلاء في الوقت الحاضر، فكيف السبيل إلى معيشة سعيدة يرجوها هؤلاء بعد انفصالهم عن بقية أجزاء السودان؟ وهل يرغب حكام الجنوب في الانفصال ليقوموا بتحسين الأحوال المعيشية لهؤلاء الجنوبيين فيما بعد، حيث أن وجود هؤلاء الحكام ضمن السودان الموحد يمنعهم من ذلك؟ وهل قام دعاة الانفصال وحكام جنوب السودان بعمل دراسة لكشف الأسباب الكامنة وراء امتهان ملايين الزراع مهنة زراعة الكفاف هذه؟ إنه من المعلوم لهذا المؤلف أن السياسة عبارة عن عدة عوامل مجتمعة تؤثر في حياة الناس، وأن ممتهني زراعة الكفاف الإعاشية قد تأثروا ببعض هذه العوامل مما جعلهم ضحايا لهذه القرارات السياسية وإذا كان الحال هكذا، فهل الانفصال عن بقية أجزاء السودان هو العلاج الشافي لهذه الأخطاء السياسية؟
اصدارات مركز دراسات الشرق الأوسط وافريقيا


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.