في خواتيم العام 1987م لأول مرة أقوم بزيارة إلى ولاية الجزيرة وحاضرتها المدينة الحالمة ود مدني، لكم أسرّتني بجمالها الأخّاذ وشعبها السمح الطيب. وقد عوضتني بعضاً من أجواء الطبيعة الحلوة والباهرة التي قضيت فيها طفولتي وشيء قليل من شبابي بمدينة واو الخضراء الجنة التي أخطأت طريقها إلى الأرض حيث لفحتني الخرطوم بلهب طقسها الحار أول ما وطأت قدماي أرضها. وللحقيقة لم تحرِّك أي من مدن السودان مشاعري كما فعلت ود مدني وجادت قريحتي ببعض الأبيات إن جاز لي أن أسمى ما كتبته شعراً وأنا أتأهب لولوج المرحلة الثانوية فقلت: حللت ببلدة كنت أشم ريحها فظننتها كالمزن أسأت الظن والحقيقة لم توافق سوء ظني تسرب إلى قلبي حبها كما يتسرب إلى العيون السّنن في أعماقي رسب فألمني وأضناني وأسعدني فسألت صحابي ماهي؟ فقالوا أم المدن فقلت ما هي؟ أم المدن ذات الجمال والمنظر الحسن أهي من رياض الفردوس؟ فقالوا يا هذا هذه مدني جنة تحتها نهر إن لم تكن من الفردوس فمن عدن بنود الجمال عالية في سمائها ونسيمها في الصباح كالنسرين وضمها حناناً النهر المتأود كتأود الفنن كليم أواه أسيف غيرها سقيم ميت أو كأني لحظة بدونها سنين وإن لم أزرها في المنام زارتني مدني الحضارة والأصالة للتاريخ محور وللجمال سكن رؤياك أبغي وقربك أتمنى وروحي لك وبدني شددت رحالي حملت زادي فقلت لقومي إلى مدني إلى مدني.. إلى مدني ظلت علاقتي بمدني ومدن الجزيرة الأخرى متصلة خاصة أن لي فيها أرحاماً وجمعت هذه المدينة خليطاً من أبناء السودان يعيشون في تراحم ووئام، وقد كان مشروع الجزيرة قِبلة لأهل السودان وسلة غذاء المواطن السوداني ويرفد الخزانة العامة بالعملات الصعبة وترفد نساء الجزيرة السودان بأساطين السياسة والفن وكرة القدم والعلماء، ومن منا لا يعرف الكاشف، وود الإمين، والبلابل، ومصطفى سيد أحمد، وعصام محمد نور، وشبارقة، وفهيمة عبد الله؟!، ومن منا يجهل طابت الشيخ عبد المحمود ورجال السجادة العركية ولفيف من السادة رجالات الطُرق الصوفية الذين أسهموا بصورة كبيرة في تهذيب الوجدان وتزكية الأرواح وتجميل النفوس ومن منا لا يذكر الشيخ الراحل المقيم صلاح زعيم جماعة أنصار السنة المحمدية الذي أسس للجماعة عملاً عظيماً ويتوجّه المريدون إلى حي مايو زرافات ووحدانا لأداء صلاة الجمعة في مسجد الجماعة. لقد أنجبت الجزيرة الأفذاذ في الأدب والصحافة والإعلام. وما ذُكر الإعلام والأدب، إلا وذُكر صاحب القلب الأسطورة والحضور الأدبي الفخيم حسين خوجلي والأستاذ الهندي عز الدين الذي حفر الصخور وبنى مجداً (وهرماً إعلامياً) يُشار إليه بالبنان، وصديقي الصحافي الصاعد الواعد بالغراء ألوان الحاج الشكري. لقد شعرت بغُصة في الحلق إبان زيارتي الأخيرة لود مدني في اليوم الثالث من عيد الأضحى المبارك ووجدت المدينة العذراء قد كساها البؤس وران عليها غبار الاهمال. فالشوارع ضيقة حاصرتها الأتربة وتوسطتها الحفر وصار شارع النيل أشبه بالمقابر. أما الشارع الذي يمر أمام مبنى التلفزيون يدعو للرثاء والأسى، والوجوه شاحبة فقد غشى «محمد أحمد» الجزيرة جور الزمان وظلم الإنسان لأخيه الإنسان فلن أتحدث عن مشروع الجزيرة العملاق الذي هوى ولا عن رحمها الذي نضب عن الانجاب الوفير للمبدعين في شتى مجالات الحياة. لقد قرأنا عن وأد البنات في الجاهلية، ولكنني رأيت بأم عيني وأد المدن على رأسها مدينة ود مدني التي كانت ترفل في ثوب قشيب وجمال سوداني أصيل فهي قلب السودان النابض تستمد منه مدننا وأريافنا الحياة والبقاء. سيدي البروفيسور والي ولاية الجزيرة.. ألا تستحق العاصمة التي تحكم منها ولايتك شيء من العناية والاهتمام، ألا تستحق مدني أن تمسح عنها دموع الحزن وتغسل وجهها من ماء النهر الأزرق الذي يجري تحت قدميها العاريتين، ألا ترى ما اعترى هذه البلدة من رهق وإعياء وذهاب بعض شبابها؟! ود مدني من هم أولئك الذين يسعون لوأدها وبأي ذنب تتعرض لمحاولات القتل؟.. ولن ينسى أبناء جنوب السودان إبان الحرب الضروس التي دار رحاها في الجنوب كيف أن رفاعة فتحت أبوابها للطلاب الجنوبيين بمدرسة الشيخ لطفي فأكرمت وفادتهم وقدمت لهم عصارة جهدها في حاتمية مدهشة فتخرّج الآلاف من الطلاب من تلك البقعة الخالدة خلود شيخ العرب أبو سن، فالشعب السوداني كله مدِين لولاية الجزيرة فلنمد لها أيادينا جميعاً لتظل عاصمتها المدينة الثانية بعد الخرطوم دون منازع أو منافس فلك الله يا أم المدن!!.