عدت إليه بعد غياب طويل، وجدته مستسلماً لذات الطباع التي حملتني على هجره والهروب من فظاظة الطريقة التي يفكر بها، فيخرج حديثه رتيباً ومقززاً ومؤذياً، وتلد أفكاره البائسة مواقف تصرع كل محاولة للتواصل، والسهل الجميل من حراك الحياة. حواري معه وإن كان متباعداً قبل رحيلي عنه يخرج مقهوراً وبطيئاً، ألتقط فيه الكلمات كمن يلتقط أنفاسه من داخل صدر ضيِّق حرج يصعّد إلى السماء، أستعجل الرحيل متعذراً بأتفه الأسباب، حتى يتمكن جسدي من اللحاق بروحي ومزاجي، وهما قد هربا قبل أن يتفوَّه صديقي القديم بحرف واحد، وهو يقسو على الناس بطريقته المعهودة فيه. وجدته ينصت لرجل يتجاذب معه أطراف الحديث، بدت لي ملامح وجهه وقد أصابها بعض التغيُّر عمّا تركتها عليه، كانت تستقر على هيئة واحدة لا تحرك فيها الكلمات مهما كان أثرها، الآن ملامحه تتبدل وتتحول على وقع الكلمات، حتى أعجزني الإمساك بها أو قراءتها، فحسبت أن ثمَّة تغيُّر كبير قد طرأ على الرجل، وانتظرته ليتفوه حتى أتيقن من ذلك، وفجأة صمت الرجل محدِّث صديقي ينتظر حديثاً منه ليعقِّب على ما سرده من حكاية محزنة فُجعت بها قرية الرجل وفُجعت أنا بتفاصيلها.. من جانبي وبطريقتي التي أحسب أنها متقدمة وعميقة بلورتُ أفكاراً حبستها منتظراً صديقي القديم وما يفتح الله عليه، استدار صديقي القديم نحوي وقد أشاح تماماً عن الرجل، وهمس لي: لا تجب الرجل. وعاد إليه يسأله عن موضوع آخر وسط حالة من الاستغراب والحيرة بدت واضحة على وجه الرجل، وكذلك سكنت الدهشة دواخلي، وبدأت استفهامات كثيفة تلاحق ذهني، وطفقت أنظر إلى الرجل لعلِّي أجد إجابات أتصبَّر بها، حتى يكشف لي صديقي القديم عمَّا دعاه ليصرف اهتمامه عن الحديث الخطير الذي تفوَّه به الرجل، الرجل لم يتفوَّه بكلمة لما يقارب الدقيقة، وفجأة نهض واقفاً وانصرف دون أن يستأذن، وصديقي القديم يلاحقه بنظرات باردة، حتى غاب عن ناظريه، ثم أطرق للحظات وأنا أرقبه بدقة متناهية دون أن تفلت مني كلمة أو حتى حركة تجعل صديقي القديم يخفي عني حكاية الرجل، وقد نسيت حكاية أفكار الرجل وطريقة تفكيره.. رفع صديقي رأسه واستقبلني وجهه دامعاً، هي المرة الأولى التي أراه فيها على هذه الحالة، ورغم ذلك تماسكت أنتظر مبادرته بالحديث، أزاح قطرات الدمع بيديه، وأقبل ينظر إليّ محدقاً وكأنه يلملم أطراف ردّ فعلي تجاه ما حدث، وأنا مستسلم ومنتظر، سألني عن أحوالي بعد كل هذه السنوات، فردعته بسؤال مباشر: ما قصة الرجل؟ فأجابني: دعه. قلت له: لا لن أدعه. صمت لثوانٍ وأنا أحاصره، وبدا عليه الاستسلام، فدنا مني وبدأ همسه المعهود: هو صديقي قبلك، رحل عني مثل رحيلك عني وانقطع لسنوات مثلك، في عهدنا الأول ارتكبت في حقه خطأ ترتبت عليه الحكاية الحزينة التي سمعتها، وخاصمته بدل أن يخاصمني هو، ورددته عشرات المرات بذات القسوة التي رأيتها قبل قليل. قاطعته: وما يبكيك وأنت ترده؟ فيقول لي: يبكيني أنني أظلمه ولا أنصفه. فقلت له: وما يمنعك أن تنصفه؟ فيقول لي: نفسي تمنعني. وينفجر باكياً من جديد. فنهضت وأنا أقول له: دعني ألحق بالرجل. فيجذبني إلى الأرض وهو يقول لي: دعه يمضي قبل أن ترتد عليّ نفسي فتسلبني هذه اللحظات التي أشعر فيها بظلمي لمن هم حولي من الأصدقاء والأهل والمعارف. ويردف قائلاً: الآن أحس بجمال نفسي وهي تعاتبني وأشعر بظلمي لك أنت، مثلك مثل العشرات الذين أخاصمهم، ولكن أرجوك ألّا تفاتحني حتى وإن حملك هذا على أن تهجرني عشر سنوات أُخر.. أرجوك. خرجت منه وقد تركته على تلك الحالة، وإذا بالرجل، وقد غادرنا قبل ساعة كاملة، ينتظرني خارج دار صديقي القديم، تقدم نحوي وبادرني بتحية وهو يناديني باسمي، وسريعاً حاول قطع الطريق على دهشتي وهو يقول لي: حدثني عنك صديقك القديم بعد خصامه لك، وقد عاودته وقتها أدعوه إلى إصلاح ذات البين بيننا فلم يرد عليّ إلا بكلمات عنك، وصمت حتى غادرته وهو يبكي بطريقته التي ربما دخل فيها بعد أن غادرتكما. ودنا مني الرجل أكثر، وقال لي: صديقنا يا سيدي يستعذب الخصام ويسعد به. ومضى الرجل دون وداعي ونظراتي تلاحقه حتى كاد يغيب، فصرخت أنادي عليه: إلى اللقاء بعد عشر سنوات، في محاولة أخرى. وقبل أن أرحل التفتُّ فإذا بصديقي القديم يقف أمام باب داره ينظر إليّ وكأنه يجهلني تماماً، فحملت قدميَّ أمامي ورحلت.