{ أذكر أن جدنا مختار عليه من الله الرحمة والرضوان قد سألني، وكنا يومئذ تلاميذ تعليم أوسط، سألني: هل بالفعل أن الحكومة تنوي تطبيق (الشريعة البيضاء)؟، وهذه أول نسخة من تسميات الشريعة أسمعها، فقلت له: (لا، ليست البيضاء، فالحكومة تود أن تطبق «الشريعة الإسلامية»)، فانتهرني الرجل قائلاً: ما ياها الشريعة البيضاء، ولما بلغنا سن الرشد الفكري والسياسي وجدنا المعركة تحتدم بين أحزابنا على ثلاث نسخ من الشريعة، وهي نسخ (الصحوة الإسلامية) التي يأخذ بها حزب الأمة، والاتحاديون كانوا يطرحون نسخة (الشريعة السمحاء)، ولقد أتى الإسلاميون بنسختهم الحضارية، وللسلفيين مشروعهم ورؤيتهم التي بالضرورة لا تتطابق مع الآخرين و...و .... { هذا التباين المتعدد والرؤى هي فقط في دولة السودان، وستتعقد المسألة أكثر إذا طرح هذا الأمر على أمة المليار ونصف المليار مسلم، المنتشرين على وجه الكرة الأرضية، وسيحتدم الخلاف أكثر بين الرؤيتين الشعبية والرسمية، وعلى سبيل المثال فإن دولة مسلمة مثل دولة مصر العربية، أرض الألف مئذنة.. أرض الأزهر الشريف، تضع في قمة دستورها نصاً جريئاً جداً يقول (إن الاسلام هو مصدر الحكم والتشريعات)، وفي المقابل فإن جماعة «الإخوان المسلمين» ، الجماعة المعارضة ترفع منذ أكثر من نصف قرن من الزمان شعار (الإسلام هو الحل)، والإسلام المطروح ليس هو إسلام الدولة وإلا قد تراضى وتوافق الطرفان و... و ... ولحزب (العدالة والتنمية) التركي رؤية أخرى تتعايش مع (رؤية أتاتورك العلمانية الشهيرة) وفي الجزيرة العربية رؤية أكثر جرأة و... و.... { يذكر في هذا السياق أن الملك فيصل عليه الرحمة والرضوان، في إحدى زياراته للولايات المتحدةالأمريكية، حاول الإعلام الأمريكي إحراجه بطرح أسئلة على شاكلة: «هل لا زالت بلادكم تقطع يد السارق وتستخدم السيف لقطع رؤوس المجرمين؟» لم ينكسر الرجل الأمير الكبير يومئذ وهو يرد: «نعم نفعل ذلك، لكن دعوني أقول لكم - يقول الأمير - لقد قرأت في صحفكم إحصائية جرائم القتل والنهب فهي بالآلاف، ولو أنكم فعلتم ما نفعل لتطهّر مجتمعكم وتراجعت فيه معدلات الجريمة و ... و.....». { ومستشرق بريطاني آخر قال يوماً إنه لم يدرك معنى الآية القرآنية «وََلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ»، إذ كيف في الموت حياة؟، يقول لم أدرك هذا المعنى إلا يوم أن سيق رجل بريطاني قاتل للمحكمة للمرة العاشرة في جريمة قتل، فاستدركت وقلت: «لو أن القضاء البريطاني يقتل القاتل كما يفعل المسلمون، لكتبنا الحياة لتسعة مواطنين بريطانيين» ، يقول الرجل المستشرق: «الآن فقط أدركت كيف يكون القصاص مدخلاً للحياة». { استدعى هذه الأحداث بين يدي حادثة جلد الفتاة السودانية التي تحتفي بها هذه الأيام الفضائيات العربية، وحالات التباين بين وجهات النظر التي خلفتها هذه الحادثة داخل المجتمع السوداني وخارجه، أنا لست معني هنا بالرد على الذين يقولون إن الجلد يخالف مواثيق حقوق الإنسان، لأنه وببساطة شديدة فإن عقوبة الجلد منصوص عليها في القرآن الكريم، لكني معنيٌّ جداً بكيفية تنفيذ الحدود والعقويات الشرعية، والجلد هو الجلد على الظهر أم على الرجلين، وإذا قلنا يجب أن نخفي هذه العقوبة داخل غرفة مغلقة ، فأين سندس النص القرآني الصريح «وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ»؟. { ولكن أستطيع أن أقول ، فلئن جُمَّد (حد السرقة) في عام الرمادة، لأن الأمة يومئذ كانت تمر بحالة عوز ومسغبة، فهل بالإمكان أن ينظر علماء الأمة السودانية في تجميد ولا أقول تعطيل، تجميد عقوبة (التعري والأعمال الفاضحة) ريثما يتعافى مجتمعنا من هذه الظاهرة المتفشية لنكتفي بثقافة التوبيخ والإقرار في الحالات التي دون الحدود؟ وإلا فإننا سنحتاج الآن لإنزال هذه العقوبة على أكثر من نصف الجامعات السودانية على سبيل المثال، لأجل هذا.. لماذا لا نذهب في تقنين وتثبيت الزي واللبس الموحد في الجامعات أولاً .. ثم المجتمع ثانياً.. ثم بعد ذلك... والله أعلم؟ { ويبقى من الصعوبة بمكان تنزيل حكم الشريعة، السمحاء والغراء والبيضاء.. على مجتمع (غير إسلامي)، مجتمع مسلم لكنه غير مدرك لأبعاد الالتزام الإسلامي.. والله أعلم.