قالها مصور أمريكي وهو يرصد مشهداً كارثياً: «كيف تريدوننا أن نضبط العدسة وعيوننا مليئة بالدموع». كانت تلك تك العبارة تحاصرني وتحاصر طائفة من الذين تابعوا الفيلم الأمريكي الجديد (الهجوم على دارفور) وهو فيلم سينمائي أفرزته موجه التصعيد الإعلامي للأزمة ويمثل واحداً من سلسلة أفلام الرعب ذات الظلال السياسية التى جعلت من قضية دارفور كارثة على المستوى العالمي؛ لدرجة أنك إذا شهدت العرض وتركت بصرك مصوباً نحو الشاشة، نحو مشاهد القتل والاغتصاب والدماء؛ فلا غرو أنك ستشعر بالألم والرعب ومما يبدو من ابتدار تمهيدي للعرض وتجسيد للوقائع يفوق حد المعقول ولفت النظر. بُعيد ذلك تتجول الكاميرا في إحدى قرى دارفور المشيدة (بالقش) وتنقل صورة حية للنشاط اليومي للقرية مقرونة بقصاصات الخوف من المجهول والفوضى المرتقبة، ولكنها حياة فيما يبدو غير طبيعية وليست نتيجة مصادفات بحيث أنك تستطيع أن تتوقع نهايتها. الموت كائن يتربص بك والأرض أصبحت رائحة الموت عطرها المفضل هكذا تشير (التترات). هذا الفيلم تحديداً يعد واحداً من أخطر الأفلام التى أنتجتها هوليوود في الفترة الأخيرة لتسويق القضية وانفتحت على أثرها المأساة بشكل فشلت كل محاولات السيطرة عليها، وهنا يبرز سؤال مُلح تماماً: لماذا دارفور على وجهة الخصوص؟ هل تلك الوقائع حقائق أم على سبيل المجاز؟ وهل ستنجح تلك الأفلام في صناعة رأي عام ساخط على النظام وقادر على التأثير على حكومات بلدانه لإطفاء الحريق؟ أم أن تلك القضية لا تعدو كونها مجرد مؤامرة، كما يشير الإعلام الرسمي دائماً، هل ثمة ضحايا على ذلك القدر من الظلم؟ هل ثمة جريمة وُلدت خارج رحم المنطق؟ يصعب توفير أجوبة لتلك الأسئلة على اتساع أقواسها، والشاهد أن كل ما أراد أن يقوله مخرج الفيلم «أوي بول» هو ما ظهر نهاية العرض «إن لم نوقف الإبادة الجماعية فهذا يعني أننا لم نتعلم من التاريخ» . بول استعان بشخصيات ذات ملامح عربية لتقوم بدور (الجنجويد) وأسند شخصية قائد الهجوم على القرية إلى الممثل الأمريكي المصري الأصل سامي الشيخ، وتدور أحداث الفيلم الأخير الذي تم تصويره العام (2009م) حول مجموعة من الصحفيين الغربيين الذين يزورون دارفور لجمع لقطات ومقابلات ليتم نشرها ورفعها لمؤسساتهم، ولكن القدر كان يرسم لهم مصيراً آخر بعد بلوغ تلك القرية التى يقتحمها (الجنجويد) عنوةً دون أن يلقي الأجانب السمع وهم شهداء ومن هنا يختارون المصير الأسوأ وهو مواجهة الخطر مع سكان القرية وإنقاذ طفل صغير خرج بمعجزة من تحت فوهة البنادق والنيران وارادت له واختارت له أمه الذهاب إلى أمريكا حتى ينجو من الذبح. المخرج «بول أوي» لم يكتفِ بالمشاهد الدموية التى رسمها في تضاعيف العرض وإنما مضى للقول في مؤتمر صحفي على شرف مهرجان «كان السينمائي» إنه قدم الكثير من الأفلام ولكن الهجوم على دارفور له أثر نسبة للأوضاع السياسية في السودان، ويضيف: لقد حاولت نقل ما يجري هنالك يومياً بالرغم من أن العمل كان محفوفاً بالمخاطر، وقال إن السودانيين الذي جسّدوا الأدوار في الفيلم هم النساء اللواتي تعرضن للاغتصاب وأصبن بالأيدز الآن وهي وقائع مقتبسة من شهادات وروايات حية حسب قوله. من تلك الإفادات يتضح جلياً أن «أوي» يريد أن يقول إن العمل ليس محض خيال وإنما هو صورة أخرى للواقع الذي جرى. وهنا يبرز أكثر من استفهام يرجح المنطق المنادي بإعادة استجواب الشهود وما الذي يمكن أن تفعله الحكومة لكبح جماح ذلك المد العدائي؟ هل عليها أن تكتفي بالنفي دائماً والتأكيد على أن شيئاً من ذلك لم يحدث وأنهم ينتظرون ردة الفعل جراء تأثير مثل تلك الأفلام ليحددوا بعدها شكل الرد المناسب؟ هل تلك الأفلام لا تشغل بالهم؟ الكاتب الصحفي إسحق أحمد فضل الله قال ل(الأهرام اليوم): «دعهم ينتجون ما ينتجون من أفلام، ومنطق الحكومة الآن أنها لا تشغل نفسها بما يجري في الخارج وتنتظر أي شخص يريد مواجهتها في الداخل»، وأضاف إسحق في مرافعة مطولة وتبريرية بأن الدافع من انتاج مثل هذه الأفلام هو الحقد (والبلاهة) التى تجعل هؤلاء لو قلت لهم تلك شمس يردون عليك بأنها ليست شمساً، وقال إن اليهود يخوضون معركة أول عناصرها صناعة المزاج من أصغر شيء إلى الملابس والموضة والذوق، مؤكداً أن الغرب كله الآن (تديره) شاشة السينما والتلفزيون وقد صوروا حرب الأفغان ضد السوفيت على أنها بطولات وصوروا نفس البطولات ضد أمريكا على أنها إرهاب، وهو منطق يعمل لصالحهم. وبخصوص فيلم دارفور أشار إسحق إلى أنه تم تصويره في تشاد وحتى لو صوروه في دارفور فنحن لا نمتلك المقدرة على مراقبة المنطقة السودانية. وتساءل إسحق: هل الفيلم توثيقي أم خيال؟ ثم يرد: الخيال يجعلهم يصورون المسلم يحمل طفلاً ويضعه في سنة الخازوق ومن غير الممكن أن تكون كاميراتهم موجودة آنذاك، وكل الفظائع المصورة لم تشهدها كاميرا حقيقية فهذا كله تمثيل. ووصم إسحق الغرب بالسذاجة وقال: «هؤلاء أغبى خلق الله» ولذلك جاءوا بالممثل براد وبيلي زين والفرلنغ ادوارد وكريستانا لوكنغ، وهم استخدموا انجلينا كاد عمل هذه الفتاة ليست نموذجاً منضبطاً للإنسانية، ومضى إلى أن الدعاية انطلقت في العالم على امتداد عام (2004 2005م) عندما تحدثوا عن ثلاثة ملايين أُبيدوا وتحدثوا عن الاغتصاب فثبت أنهم كذابون. إسحق ذهب أكثر من ذلك وقال: «لو صوروا ما صوروا فمشكلة دارفور انتهت، وولولة لندن و(حنك) الدوحة لا يجدي والحكومة مدبِّرة حاجة تانية خالص». وبخصوص الإشارات التى تمضي إلا أن ما حدث في دارفور ليس من الإسلام يتساءل إسحق هل هذا حرص منهم على الإسلام؟ هذا كذب والآن هنالك حرب (الجلابيب) فتجد بائع الخضار يعمل وبعد قليل تكتشف أن في يده (رشاشاً) وكذلك تجد الأوسطي قد تحولت (المسطرينة) في يده إلى (طبنجة) وهم الآن يتحسبون لمثل هذه الحرب في دارفور والإسلاميون في دارفور هم حاجة تانية. إسحق أيضاً قال إنه كتب عدداً من السيناريوهات التى تصلح لأفلام عاصفة كان من الممكن أن تصيب العالم بالذهول ولكنه لم يجد من يتعامل معه، وقال إنه صنع أفلاماًً من الذهب لمواجهة ذلك المد ولكنهم أخرجوها (بكراع حمار) - على حد وصفه - وأوضح أن المعركة إذا كانت (رقيص إلى رقيص فنحن مغلوبون)؛ فالحكومة تقول للحرامي الذي يقف على الحيطة: (تلِّب) بعد ذلك سوف تتصرف معه. ما لم يقله إسحق في هذه المرافعة وأشار إليه تلميحًا هو النقد الذي ظل يوجه للإعلام الرسمي بشكل مباشر وهو أن الصفة الغالبة فيه أنه إعلام مُسخَّر لخدمة هدفين أساسيين: تجاهل أخطاء الحكومة وتمجيد منجزاتها الإدارية، وذلك لكونه يبدو خجولاً أمام هذا الطوفان العالمي وبالرغم من أنه جرت محاولة لإنتاج فيلم عربي عن دارفور يقوم بدور البطولة فيه الفنان العالمي عمر الشريف لمعالجة قضية الحرب الأهلية في السودان - كما أشار مخرجه سعيد حامد - إلا أنه لم يرَ النور ولم يجد الدعم المناسب من قبل الحكومة السودانية؛ لعلها لم يدر بخلدها، أو أنها لم ينم إلى علمها بعد أن الصورة تجعلنا نرى الجمال في القبح وبالتالي تقوم بإلغاء ما هو سياسي - كما يردد الفيلسوف الألماني «فالتر»،..! إفادة أخرى تعتبر ذات أهمية لكونها صدرت من الدكتور وجدي كامل، المتخصص في الفن السينمائي، يقول مدير مركز مالك الثقافي ل(الأهرام اليوم) مصوباً بعض الأفكار حول حيثيات إنتاج هذا النوع من الأفلام، أن هوليود في الأصل عُرفت من خلال الإنتاج السينمائي الضخم ولا يمكن أن تكون هناك مؤسسة سينمائية دون أن تسندها أفكار ورؤى، والذي ذاع وانتشر هو التفكير الايديولوجي لهوليوود سواء من قبل اليسار أو اليمين المتطرف بما فيه من حركات إسلامية وهم ينظرون لهوليوود بعين الشك والريبة ولكنها في الآخر مدينة تنتج الغث والسمين وتضع نصب أعينها أهدافاً تجارية تتعلق بالتسويق الوافر والضخم ولها شبكات ونظم في التغلغل والانتشار. ويمضي وجدي كامل إلى حقيقة مهمة وهى أن (الباسويرد) الخاص بهوليود هو أمريكا وبالتالي يصبح الفن الأيديلوجي الذي تنتجه هوليوود هو ما تفكر فيه أمريكا سياسياً؛ بالرغم من أنها أنتجت أفلاماً انتقدت فيها الساسة الأمريكيين والظواهر والسياسة الأمريكية نفسها. وتفضل كامل بالقول إنه يجب أن نفسر أي انتاج هوليوودي تم في أمريكا بأنه لا يخرج من السياق الذي تم فيه تسويق قضية دارفور خارجياً وهذا السياق حتى نكون عادلين شارك فيه عدد من أبناء دارفور وهو ليس خيالاً أو مجرد رغبة تتعلق بغرباء في وضع تصور لقضية دارفور. وأشار وجدي إلى أنه بالإضافة للمساهمة الحية لأبناء دارفور؛ فإن الحكومة السودانية لها نصيب أكبر بشكل غير إرادي ونحن الآن لا نتكلم عن تقارير إخبارية لمراسلين صحفيين وأنما نتكلم عن (يوتيوب) قادر على نقل وقائع ومشاهد لا سبيل لتكذيبها والدليل قضية الفتاة الأخيرة. وقال وجدى إن السماوات أصبحت مفتوحة وأن كل شيء مراقب في دارفور وفي السودان كله لحظة بلحظة وهو ما يقوم به الأمريكان، أما هوليوود خلال مستوى الفن الذي أشرنا له فه لا ينقل الواقع بحذافيره وإنما يمثل مستوى آخر من الواقع يأخذ جوهر الحقيقة. وجدي يشير أيضاً إلى أن السينما تكتسب الآن أهمية من خلال تعدد وسائط عرضها من تلفزيون وإنترنت وموبايلات، والرأي العالمي اليوم أصبح يتشكل بطرق جديدة، وفي الماضي كان الحديث يدور عن رأي عام عالمي وآخر محلي ولكن اليوم هناك رأي عام واحد والعالم أصبح غرفة صغيرة. وبخصوص التفكير السوداني الذي قلل من تأثير مثل هذه الأفلام يقول وجدي إنه تفكير أقل ما يوصف بأنه مضحك، وأضاف أن العقلية السياسية لم تتمكن من استيعاب هذه النقلة، وقال وجدي إن السودان كله أصبح مراقباً وبالتحديد دارفور. فالذي يحدث هو نقل عن الواقع عبر الفن وفيه متسع من المعالجات والرؤى، مشيراً إلى أن أكثر الناس بُعداً عن حقائق الأمور الجارية في دارفور هم أهل الشمال، ضحايا استقبال الإعلام الرسمي. وخلص وجدي إلى أن هنالك سينما سياسية بالفعل وهى لها تاريخ حيث أنها تتخذ من تلك القضايا موضوعات لها وتقوم بمعالجتها فنياً. من هنا يتضح جلياً أن المواجهة لم تعد على أرض الميدان وإنما أصبحت مواجهة على مسرح غير مكشوف ولا أحد يعلم من يتحكم فيه جوهرها الرئيسي الافلام السينمائية التى لا قبل للحكومة بها وهي في الغالب الأعم تشكل رأياً عالمياً ضاغطاً ومؤمناً بضرورة تسوية الأزمات الإنسانية بشكل عاجل. رأي عام واحد يدرك حجم الرسالة الملقاة على عاتقه بمجرد مرور الفيلم واقتراب نهاية العرض الذي سيفاجئه الضوء بعده حتماً وربما تجد الحكومة ساعتها أمام رجل مثل الفنان العالمي «بيكاسو» عندما رسم لوحته الشهيرة «جورنيكا» مصوراً فيها خراب تلك المدينة على أيدى الفاشيين وعندما قبضوا عليه وسألوه في محضر الاتهام: «أنت الذي رسمت هذه اللوحة»؟ رد عليهم بجوابه الشهير: «لا.. بل أنتم».