بعد الرحيل المفاجئ والغامض للدكتور جون قرن دي مبيور، الذي كان وحدوياً حتى لحظة سقوط طائرة الرئاسة الأوغندية به على سفوح وهضبة الأماتونج بنيوسايد؛ وجد الفريق أول سلفاكير ميارديت نفسه على سُدة ورئاسة الحركة الشعبية، وجلس على مقعد عصيٍّ عليه، خالفاً رجلاً على الأخرى، لابساً قبعته التي عُرف بها، وهو بين مصدق ومكذب لذلك الحلم الذي داهمه نهاراً، ولم يخطر له على بال أنه سوف يكون نائباً أول لرئيس الجمهورية، عطفاً على أنه لم يكن يوماً من الأيام معروفاً لدى الشارع العام، ولم يتعاطَ السياسة ويسبر أغوارها وأعماقها، إنما كان يعرف بأنه ضابط عمليات في الجيش الشعبي، صال وجال في أحراش الجنوب وأدغاله دون أن تطأ أقدامه حواضره، إلا مكلفاً لاستجلاب مواد تموينية أو عتاد حربي، وقد يكون حقق لنفسه مكاسب شخصية في ذلك المحفل. فأطل علينا الرجل بقبعته الغامضة كغموضه المريب نائباً أول لرئيس الجمهورية، ترتسم علي ملامحه الوداعة وكأنه زاهد في ذلك التشريف والتكليف الذي طاله. وقد صدّق المؤتمر الوطني حيناً بأن السيد سلفا يسير بخطى حثيثة على درب سلفه وقائده الفذ الدكتور جون قرن وينتهج نهجه ويضع أقدامه على آثاره الوحدوية ويحذو حذوه كتفاً بكتف، إلا أن شواهد الأحداث ومجريات الأيام ومعطياتها، كانت تؤكد حقيقة أنه مزدوج الأفكار والمعايير ولا يرسو على بر واضح وصريح، يلفه ويحيط به صمت مريب، ضنين الابتسام، قليل الإفادة، شحيح حد التلاشي في تصريحاته المتباعدة، ولم يكلف نفسه أو تحدثه يوماً بأن يزور بعض من الولايات الشمالية وحواضرها، وهو الرجل الثاني في الدولة والمسؤول الأول حال غياب سعادة المشير عمر البشير. واستقر وطاب لسلفاكير المقام بجوبا العاصمة الموعودة لأمانيه، ولا يأتي إلى الخرطوم إلا لماماً أو مستدعى من مؤسسة الرئاسة لأمر مهم وطارئ، فكان يأتي وهو على عجلة من أمره، قافلاً الى الجنوب بأسرع ما يكون. حتى كانت رحلته الأخيرة للولايات المتحدةالأمريكية فإذا بالرجل يفاجئ الجميع والمؤتمر الوطني تحديداً ويصرح من واشنطون بأنه سوف يصوِّت لانفصال الجنوب، ماداً لسانه سخريةً واستهزاءً، غير عابئ بمؤسسة الرئاسة التي ينضوي تحت لوائها وهو أحد أركانها وأوتادها الثلاثة وحامي حماها، وكان عليه أن يكون كيِّساً فطناً ولا ينزلق هكذا ويزل لسانه بهذه الطريقة المدهشة، وبالطبع هذا لا يليق بوضعيته الرئاسية، فإن دل ذلك على أمر إنما يدل على أنه ليس رجل دولة أو سياسياً كما أسلفت، وينقصه الكثير حتى يطول ذلكم المقام الرفيع، وكان عليه أن يحتفظ لنفسه بحق الإدلاء سراً دون الإشارة أو التصريح وهذه الإفادة الممجوجة التي انتقصت من رصيده الضئيل. وأخيراً انضم الفريق سلفاكير للسرب والتحق بركب الانفصاليين وصقور الحركة الشعبية، قافزاً بالزانة بصورة بهلوانية يحسده عليه الأولمبيون، منادياً بالانفصال داعياً وداعماً له، يتحراه بأشواق دفاقة، ممنياً نفسه في رحلته القادمة ميمماً وجهه شطر الولاياتالمتحدةالأمريكية حاجاً لها رئيساً لدولة الجنوب الوليدة من رحم نيفاشا المعيوب. وقد زادت دهشتي وهو يحظر صحيفة (الأهرام اليوم) من الدخول الى الولايات الجنوبية رافضاً أن تزيِّن أرفف مكتبات الجنوب، على قلّتها، لعلمه التام والمتكامل بأنها تدعو وتوطِّن لمفاهيم التلاقي والمعايشة الممكنة، وتقود خطاً وحدويا صريحاً وهو غير ميال لذلك. عليه، يجب على حكومة الخرطوم أن ترتب أوراقها من جديد وتوفق أوضاعها بصورة أفضل مما كانت عليه وتعيد الكرّة لرسم خارطة طريق متوازنة أكثر دقة من سابقتها درءاً لمخاطر الانفصال، فالحركة الشعبية تجتهد في مثابرة تحسد عليها وتحزم أشياءها مودعة الخرطوم على أمل أن يكون التاسع من يناير القادم موعد الرحيل وميلاد تاريخ جديد في سماء السودان القديم. والشيء بالشيء يذكر.. أين السيد ياسر سعيد عرمان المرشح لرئاسة الجمهورية من قبل الحركة الشعبية؟ أخشى ما أخشاه أن يكون قد انتهى دوره الكومبارسي وما عاد مرغوباً فيه وانتهت صلاحيته كما هو الحال في المعلبات المستوردة. أقول هذا ولم يتبقَ أمل أخضر في وحدة كاملة كما يشتهي العقلاء، ولكن فليتكاتف الكل بالمناكب وبجهد وقلب رجل واحد في أن تقوم: 1/ دولة بنظامين: علماني في الجنوب، وإسلامي في الولايات الشمالية. 2/ ديموقراطية حقيقية غير مزيفة أو منقوصة، أدواتها: الشفافية، المصداقية، العدل والمساواة في توزيع الفرص بحق المقعد والتكليف. 3/ تقسيم الثروات يكون بنسبة (60) بالمئة للإقليم المنتج (موقع الثروة)، و(40) بالمئة للدولة الأم. 4/ أن تكون مصروفات الحكومة الاتحادية بنسبة 2 الى 1 بين الشمال والجنوب على التوالي. 5/ على الشمال العمل على تطوير القطاعات المنتجة لا سيما الزراعي، الرعوي، النسيج وصناعة الجلود. حيث أن اعتماده على البترول بنسبة تفوق ال(75) بالمئة أوعز للمخيلة الجنوبية أنها تجر عربة معطوبة تكلفها رهقاً. الواحد القهار وحده الذي يعلم تفاصيل تلك المرحلة الحساسة والمفصلية في تاريخنا الحديث والسودان الوطن الواحد يبدأ ويستهل رحلة التشظي والانشطار والتفتيت، وحركات الغرب بمختلف مسمياتها وأشواقها تراقب بحذر وتوجس لتنتظر دورها الآتي لقضم الطرف الغربي بعد أن يتم بتر الجنوب من الوطن المكلوم الذي أبى بنوه إلا أن يتنازعوه نهشاً مقطعين أوصاله بمُدًى وأنصال صدئة غير مبالين بذلكم الجرم الخطير والشمس في رابعة النهار. القضارف