{ بالأمس نشرت عدد من صحف الخرطوم التقرير السري للأمم المتحدة الذي كشفت من خلاله حجم الفساد المالي الرهيب لأجهزتها بجنوب السودان، وقد نشرته صحف الخرطوم نقلاً عن صحيفة (تاجستسايتونغ) الألمانية، التي نشرته هي الأخرى الاثنين (أمس الأول). ويظهر التقرير أن خمسين خبيراً يعملون في برنامج الأممالمتحدة لتطوير جنوب السودان حصلوا على رواتب باهظة بلغت (14) مليون دولار خلال العام الحالي. وأشار التقرير إلى أن هؤلاء الخبراء يتلقون رواتب خيالية لوظائف لا وجود لها. وكشف التقرير أن البرنامج الذي ترعاه الأممالمتحدة به اختلالات ونواقص كبيرة وهو في الحقيقة يهدف إلى تأهيل عشرات الآلاف من قوات الحركة الشعبية، وقد رصدت الأممالمتحدة لهذا البرنامج (430) مليون دولار، وأن جملة ما صُرف من هذا المبلغ في البرنامج لا يتجاوز ال(105) ملايين دولار، فقط في حين صُرفت بقية المبالغ في الرواتب والمكافآت والنثريات. ويكشف التقرير أن من المفترض منح كل جندي (1500) دولار، في حين أنه تم منح كل جندي (600) دولار. وخلص التقرير إلى أن مثل هذه التصرفات الفاسدة ستسهم في عدم استقرار الأوضاع في الجنوب في حال قيام دولته.. هذا كله ما حواه التقرير. { مثل هذا الفساد، وإن تصاعدت الأرقام، فإنه أمر اعتيادي داخل المنظمة الأممية، وهو في ذات الوقت مثال لعشرات العمليات الفاسدة التي تقوم بها الأممالمتحدة في بلادنا، والحمد لله أن الكشف عن هذا الفساد جاء في تقرير أممي كشفت عنه صحيفة غربية، وقد ذيلت خلاصة التقرير بالخوف على الأوضاع في الجنوب بعد الانفصال. وقد كان البرنامج يهدف في الأساس إلى بناء قوات الحركة وتأهيلها كجزء من المؤامرة التي تستهدف فصل جنوب السودان عن شماله وقيام دولة جديدة فيه، وفي ذات الإطار فإن الأممالمتحدة ما زالت تضطلع بالعديد من البرامج في الجنوب، التي هي بالتأكيد غارقة في الفساد، الذي أصبح ظاهرة أممية، لا سيما أن بالجنوب عشرات القيادات التي تعمل على قسمة «الكيكة» مع موظفي الأممالمتحدة وخبرائها. وستكشف الأيام وال(ويكيليكس) عن المثير الخطير في هذا الجانب. { في المقابل فإن فساد المنظمة الأممية في دارفور ومنظماتها العاملة في الحقل الإنساني بدارفور لا يقل كارثية وأرقاماً فلكية عن ذاك الذي يحدث في جنوب السودان. ونبدأ سردنا عن هذه الظاهرة بالمقابل الذي يمنحه برنامج الغذاء العالمي للمنظمات العاملة في دارفور، نظير توزيعها الغذاء والمواد على النازحين، حيث يمنح البرنامج المنظمات الأجنبية (150) دولاراً على الطن الواحد، في حين أنه يمنح المنظمات الوطنية (25) دولاراً على الطن الواحد، ولك أن تتساءل عزيزي القارئ، عن المفارقة بين توزيع هؤلاء وتوزيع أؤلئك؟ وهل تكفي ال (25) دولاراً لإنجاز مهمة التوزيع، فتربح المنظمات الأجنبية عن كل طن (125) دولاراً؟ فلنترك هذه وننتقل إلى مسألة أخرى تتصل بالتمويل، ففي العام 2007م بلغ التمويل (539) مليون دولار، حصدت المصروفات الإدارية أكثر من ثلاثة أرباعها، صُرفت على (16690) موظفاً وعاملاً، منهم (15408) سودانيين لا تتجاوز مرتبات الفئات العليا منهم (3000) دولار، أما درجة العمال وهم 95% من السودانيين العاملين في المنظمات الأجنبية؛ فلا تتجاوز مرتباتهم (300) جنيه في حدها الأعلى، أما الموظفون الأجانب فيبلغ عددهم (1282)، وقد يصل مرتب الموظف الأجنبي إلى (25) ألف دولار، أما السيارات التي تملكها المنظمات فهي (2041) سيارة، والمقار (473) مقراً، وأجهزة الموبايل والاتصالات (3808) أجهزة. { هناك منظمة سويسرية يطلق عليها (شبكة الأمل) كانت ميزانيتها للعام 2008م (70) ألف دولار، تذهب منها عشرون ألفاً للعمل الإغاثي، أما ال (50) ألف دولار فإنها تذهب مصروفات إدارية. ويحكى أن سيدة غربية تدعى (راشيل)، لديها وحدها منظمة يطلق عليها (طفل الحرب الكندية) تعمل في دارفور، لا تملك غير جهاز (لاب توب)؛ تتلقى تمويلاً وتجوب دارفور وتشكل حضوراً في كافة الفعاليات، وهي في الحقيقة لا تتجسس وإنما تسترزق. ومما يحكى في أزمة دارفور ويتصل بالفساد أن تجمع المنظمات اليهودية، وهو ما يعرف ب (SAVE DARFUR) جمع في العام 2006م (15) مليون دولار، لم يصرف منها فلساً واحداً على النازحين أو اللاجئين من أهل دارفور، وقد تم لاحقاً فصل المدير التنفيذي لحملة إنقاذ دارفور المدعو (ديفيد روبنستاين) بسبب شبهات الفساد المالي. { أصدرت منظمة الشفافية الدولية، ومركز فينستاين الدولي، ومجموعة السياسة الإنسانية بالمعهد البريطاني لتنمية ما وراء البحار؛ تقريراً بعنوان (مكافحة الفساد في مجال العمل الإنساني) جاء فيه أن العمل الإنساني وبسبب محيطه وطبيعته يساعد المفسدين على ارتكاب جرائمهم وتحقيق مكاسب مالية بطرق غير مشروعة، وهذا ما أسهم في ارتفاع معدلات الفساد وسط المنظمات الطوعية. { في ظل كل ذلك يلعب الفساد دوره المؤثر في إطالة أمد النزاعات، لأن المتكسبين منها تنقطع إمداداتهم، وقد صار العمل الإنساني منفذاً لكل المفسدين في الأرض، من موظفين أممين وشركات وسياسيين وأكاديميين وإعلاميين، وكل ذلك على حساب البسطاء والمعدمين وجراحاتهم وأرواحهم ومعاناتهم، ووسط هؤلاء مفسدون من بني جلدتهم يحولون بينهم والسلام ونهاية معاناتهم.