{ عمرُه الجمهور ما عايز كده.. هي شهادة ظللت مصرَّة عليها ودافعت عنها بالدلائل والبراهين، وكلما أطل صباح أكتسب دفوعات جديدة وقوية أضيفها إلى مرافعتي، فالجمهور الذي يتهمه البعض بأن أكثريته ما عادت تستمع إلى الأغنيات الجميلة، أو أن أذنه أصبح يستهويها أكثر، الأغنيات من شاكلة (سبتك بي مزاجي)، أو (سحبت البساط منك).. الجمهور ما عايز كده، بدلالة (أماسي الخرطوم) التي شهدت حضوراً جماهيرياً رهيباً من مختلف الأعمار ومختلف المستويات الثقافية.. جاء ليستمتع بالموسيقى الصرفة وبالأغنيات الجميلة من كبار الفنانين، فكان حافظاً ومتجاوباً ومردداً ومنسجماً. والجمهور ما عايز كده، بدلالة أخرى، تأكدت لي ليلة رأس السنة الميلادية، التي سبقتها مشكلة داخلية كبيرة في منزلنا، وأنا وزوجي نقترح أن نذهب إلى حفل البلابل، وأولادي مصرون على الذهاب إلى حفل طه سليمان، باعتبار أنهم خلال العام الماضي استمعوا إلى البلابل في أكثر من مناسبة، كان آخرها احتفال «الأهرام اليوم» الرهيب. واقتراحهم وجد هوى في نفسي لسببيْن، الأول أنني من عشاق صوت طه، والثاني أن الحفل ضم أيضاً (زبدة) آل البنا «عاصم»، وسألتهم إن كان هناك ثالث يشاطرهم الحفل، فأخفوا عليَّ ودسُّوا أن ثالثتهم هي إيمان لندن. المهم أننا تأنقنا وتشابكت أيدينا وتفاءلنا بالعام الجديد واتجهنا نحو صالة الغروب، مكان الاحتفال، وفي التاسعة تماماً اعتلى طه المسرح، ليختفي تماماً رغم علو المنصة التي يقف عليها، من ضخامة الحشود التي أحاطت به إحاطة السوار بالمعصم، والود الذكي يقرأ القاعة والجلوس، فغنى للكبار من درر الحقيبة ورصين الأغنيات، و(جنَّن) الشباب ب (عايز أعيش) و(لا حول الله) لتفور القاعة وتموج، وطه مع كل لحن جديد يكاد يفقدنا وقارنا، أو لعله فعل، لترتفع الأيدي تبشيراً وتصفيقاً وطرقعة، والكل في لحظة سعادة حقيقية بهذا الصوت الخطير والأداء الأخطر، وانتهت وصلة طه لتعتلي إيمان لندن المسرح، فسألت ابنتي: ده شنو؟ فقالت لي: مشِّي مشِّي.. الزمن في منتصفه ومؤكد عاصم حيطلع طوالي.. ولم تكن تدري أن روحي هي التي ستطلع وبنت لندن جاءت لترقص فقط، وفي هذا أستطيع أن أقول إنها بالجد أبدعت، لكن الغناء لم تقترب من حوشه، أو حتى تحاول الاقتراب، فغنت حاجة كده (أثبتّ لي نظري أقل من ستّه) لتجيء في مقطع آخر وتقول (نظري عشرة من سته) في مغالطة واضحة حتى لعلم الحساب، لأنه ممكن يكون ستة من عشرة، لكن عشرة من ستة دي جديدة!! ولزم الناس أماكنهم وبدأوا في الشكوى من برودة التكييف، يعني التكييف ما شعرتوا بيه إلاَّ هسِّي.. ووقت طه كان بغنِّي كانت شغالة دفايات؟! وبدأ السؤال عن العشاء، والكل يتململ، فداعبت الأخت الدكتورة ميسون وزوجها المستشار القانوني أمير، اللذين شاركانا السهرة، وقلت لهما: الليلة العشاء عدس، لأن الست إيمان هداها تفكيرها أن تسخِّن برودة أطرافنا التي كاد يصيبها الشلل فردَّدت: (نيڤر، نيڤر) وهو لحن إعلان العدس الذي ظهرت به مؤخراً، لتجسد قمة الإفلاس في المنتج، وحتى القراءة الذكية لجموع الحاضرين، ليتأكد لي مرة أخرى أن الجمهور عمره ما كان عايز كده، إذ أنه ما أن أطل ودَّ البنَّا إلا وسرت السخونة في الأعصاب، وفارق الحضور المقاعد وطردوا النوم الذي بدأ في مداعبة أجفانهم، لينطلق صوته كالسهم باذخاً في العطاء، رائعاً في الأداء، نافذاً إلى القلوب بكل جمال وألق، ليعيد إلى الاحتفال رونقه وبهاءه وعطره الذي اختفى، لأتأكد أن الجمهور عمرُه ما كان عايز كده، وهو ما يجعل الشباب تحديداً أمام مسؤولية كبيرة في أن يقدموا أنفسهم بالأداء الجيد والأعمال التي تجد القبول، حتى لو كانت خفيفة، فهذا لا يعيبها، لكنهم يا حبذا لو استغلوا هذه (الخفة) ووضعوا داخلها الدواء والترياق ضد الساقط من الكلمات والمعاني. تاني في زول يقول الجمهور عايز كده؟! { كلمة عزيزة لظرف أسري قاهر لم أتمكن من حضور ليلة البلابل في أماسي الخرطوم، لكن شاهدتها عبر النيل الأزرق، وثلاثتهن كالعادة يتألقن ويبدعن، وإن كان محمود عبد العزيز قد كرَّم السيد الوزير السموأل خلف الله إنابة عن المبدعين.. كنت أتمنى لو أنني كنت حضوراً، لكرَّمته إنابة عن الجمهور والصحافة بوشاح مغزول بالشكر والغناء على هذه الليالي التي جمَّلت مساء الخرطوم. { كلمة أعز وفي عز محنتنا في أداء بنت لندن عرفت الما عايزه الجمهور.