د. عبد اللطيف البوني يكتب: لا هذا ولا ذاك    الرئاسة السورية: القصف الإسرائيلي قرب القصر الرئاسي تصعيد خطير    وزير التربية والتعليم بالشمالية يقدم التهنئة للطالبة اسراء اول الشهادة السودانية بمنطقة تنقاسي    السجن لمتعاون مشترك في عدد من قروبات المليشيا المتمردة منها الإعلام الحربي ويأجوج ومأجوج    الدعم السريع يعلن السيطرة على النهود    المرِّيخ يَخسر (سُوء تَغذية).. الهِلال يَخسر (تَواطؤاً)!!    سقطت مدينة النهود .. استباحتها مليشيات وعصابات التمرد    الهلال يواجه اسنيم في لقاء مؤجل    تكوين روابط محبي ومشجعي هلال كوستي بالخارج    عثمان ميرغني يكتب: هل رئيس الوزراء "كوز"؟    كم تبلغ ثروة لامين جمال؟    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء الشاشة نورهان نجيب تحتفل بزفافها على أنغام الفنان عثمان بشة وتدخل في وصلة رقص مؤثرة مع والدها    حين يُجيد العازف التطبيل... ينكسر اللحن    شاهد بالفيديو.. في مشهد نال إعجاب الجمهور والمتابعون.. شباب سعوديون يقفون لحظة رفع العلم السوداني بإحدى الفعاليات    أبوعركي البخيت الفَنان الذي يَحتفظ بشبابه في (حنجرته)    من رئاسة المحلية.. الناطق الرسمي باسم قوات الدعم السريع يعلن تحرير النهود (فيديو)    شاهد بالصور والفيديو.. بوصلة رقص مثيرة.. الفنانة هدى عربي تشعل حفل غنائي بالدوحة    تتسلل إلى الكبد.. "الملاريا الحبشية" ترعب السودانيين    إعلان نتيجة الشهادة السودانية الدفعة المؤجلة 2023 بنسبة نجاح عامة 69%    والد لامين يامال: لم تشاهدوا 10% من قدراته    الحسم يتأجل.. 6 أهداف ترسم قمة مجنونة بين برشلونة وإنتر    استئناف العمل بمحطة مياه سوبا وتحسين إمدادات المياه في الخرطوم    هيئة مياه الخرطوم تعلن عن خطوة مهمة    هل أصبح أنشيلوتي قريباً من الهلال السعودي؟    جديد الإيجارات في مصر.. خبراء يكشفون مصير المستأجرين    باكستان تعلن إسقاط مسيَّرة هنديَّة خلال ليلة خامسة من المناوشات    إيقاف مدافع ريال مدريد روديغر 6 مباريات    تجدد شكاوى المواطنين من سحب مبالغ مالية من تطبيق (بنكك)    ما حكم الدعاء بعد القراءة وقبل الركوع في الصلاة؟    عركي وفرفور وطه سليمان.. فنانون سودانيون أمام محكمة السوشيال ميديا    تعاون بين الجزيرة والفاو لإصلاح القطاع الزراعي وإعادة الإعمار    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    الكشف عن بشريات بشأن التيار الكهربائي للولاية للشمالية    ترامب: يجب السماح للسفن الأمريكية بالمرور مجاناً عبر قناتي السويس وبنما    كهرباء السودان توضح بشأن قطوعات التيار في ولايتين    تبادل جديد لإطلاق النار بين الهند وباكستان    علي طريقة محمد رمضان طه سليمان يثير الجدل في اغنيته الجديده "سوداني كياني"    دراسة: البروتين النباتي سر الحياة الطويلة    خبير الزلازل الهولندي يعلّق على زلزال تركيا    في حضرة الجراح: إستعادة التوازن الممكن    التحقيقات تكشف تفاصيل صادمة في قضية الإعلامية سارة خليفة    الجيش يشن غارات جوية على «بارا» وسقوط عشرات الضحايا    وزير المالية يرأس وفد السودان المشارك في إجتماعات الربيع بواشنطن    حملة لمكافحة الجريمة وإزالة الظواهر السالبة في مدينة بورتسودان    ارتفاع التضخم في السودان    شندي تحتاج لعمل كبير… بطلوا ثرثرة فوق النيل!!!!!    انتشار مرض "الغدة الدرقية" في دارفور يثير المخاوف    مستشفى الكدرو بالخرطوم بحري يستعد لاستقبال المرضى قريبًا    "مثلث الموت".. عادة يومية بريئة قد تنتهي بك في المستشفى    وفاة اللاعب أرون بوبيندزا في حادثة مأساوية    5 وفيات و19 مصابا في حريق "برج النهدة" بالشارقة    عضو وفد الحكومة السودانية يكشف ل "المحقق" ما دار في الكواليس: بيان محكمة العدل الدولية لم يصدر    ضبط عربة بوكس مستوبيشي بالحاج يوسف وعدد 3 مركبات ZY مسروقة وتوقف متهمين    الدفاع المدني ولاية الجزيرة يسيطر علي حريق باحدي المخازن الملحقة بنادي الاتحاد والمباني المجاورة    حسين خوجلي يكتب: نتنياهو وترامب يفعلان هذا اتعرفون لماذا؟    من حكمته تعالي أن جعل اختلاف ألسنتهم وألوانهم آيةً من آياته الباهرة    بعد سؤال الفنان حمزة العليلي .. الإفتاء: المسافر من السعودية إلى مصر غدا لا يجب عليه الصيام    بيان مجمع الفقه الإسلامي حول القدر الواجب إخراجه في زكاة الفطر    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أماني أكوت: إذا طردوني من الشمال سوف أرمي نفسي في النيل..!!

الخرطوم تنتفض من شدة البرد، الشوارع هادئة بعض الشيء، إنه التاسع من يناير؛ اليوم الحقيقي لكتابة تاريخ جديد للوطن، ربما ينتفض له الزعيم إسماعيل الأزهري في قبره. حركة الجنوبيين المقبلين على مراكز الاقتراع المنتشرة في وسط وأطراف العاصمة، اتسمت بالبطء وثقل الخطى، ومنذ أن فتحت المراكز أبوابها بدأ الإقبال الضعيف يفضح نفسه، وهو ما عزاه البعض إلى موجة البرد الشتوية التي غطت سماء الخرطوم، وقال آخرون إن الخوف، وربما الترحيل القسري، والعودة الطوعية؛ كلها أسباب جعلت الاقتراع يبدو فاتراً في يومه الأول، غير أن اللافت في مراكز الاقتراع هو النبرة الوحدوية التي طغت على خطاب جنوبيي الشمال، ولديهم مبرراتهم ودوافعهم في هذا، فالأمر ليس يسيراً، إذ يقف المواطن الجنوبي حائراً بين وطن كان موحداً اسمه السودان، فشل في الحفاظ على وحدته وهويته وتعدد أديانه ولغاته؛ ووطن جديد يتخلق من رحم الغيب وينحدر نحو مستقبل يصعب التكهن به، حيث يلامس ذلك الخطر مستقبل هذا الجمع الوافر من الجنوبيين، الذين يعيشون في الشمال ولا يعرفون لهم وطناً سواه، وقد بدأت معاناتهم تتجلّى في شكل الاستفهامات والمخاوف التي تحاصرهم من كل مكان.
(الأهرام اليوم) خرجت في جولة مطوَّلة على مراكز التصويت بشرق النيل والخرطوم شرق، وفي رئاسة مركز مفوضية الاستفتاء بشرق النيل وبحري، فقد كانت مبانيه عند التاسعة والنصف صباحاً خالية من الموظفين، إلا من اثنين فقط في مكتبين منفصلين، فيما جلس (3) ضباط من بعثة الأمم المتحدة بالزي الرسمي، قالوا إنهم في جولة تفقدية لمراقبة الدعم اللوجستي الذي قد تحتاجه مراكز الاستفتاء، وهم في جلوسهم هذا ينتظرون عودة رئيس المركز ومعاونيه الذين خرجوا في زيارات ميدانية تفقدية على المراكز، التي بلغ عددها (18) مركزاً موزعة على المدارس والأندية الرياضية بأحياء بحري وشرق النيل، وهيأت - بحسب الموظف أبو بكر الصادق - لاستقبال (10428) مقترعاً جنوبياً.
على الرغم من أن منطقة شرق النيل وبحري تعد من أكبر المناطق التي احتضنت عدداً من الجنوبيين منذ ثمانينيات القرن الماضي - يقدر عددهم بنحو (300) ألف جنوبي - إلا أن إحصائية التسجيل أعلاه تشير إلى ضعف الإقبال إبان التسجيل للاستفتاء، هذا قبل أن يلحظ المراقب وبصورة واضحة ضعف الإقبال على الاقتراع مقارنة برقم التسجيل وكثافة السكان، ربما كان هذا الضعف بسبب الهجرات الطوعية التي قام بها الجنوبيون أنفسهم ناحية الجنوب، منذ أن أعلنت حكومة الجنوب شعارها التاريخى (عد إلى وطنك)، غير أن أغلب ضباط المفوضية يتناسون هذا الأمر في تبريرهم لضعف الإقبال، ويرجعونه مباشرة إلى نزول موجة من البرد في اليوم الأول للاقتراع، علاوة على مصادفته يوم «الأحد» الذي يخصصه الجنوبيون المسيحيون لإقامة صلواتهم المقدسة في الكنائس المنتشرة بالخرطوم، الأمر الذي عضده ل(الأهرام اليوم) المراقب سمعان محجوب؛ المبعوث من قبل مجلس الكنائس السوداني، وغيره من المبعوثين الكنسيين، لكن في مدينة الجريف شرق «مركز المنطقة الغربية لشرق النيل» جاء تبرير ضعف الإقبال محمولاً على (طورية وكوريق) حملهما المقترعون ال(1088) نحو «كمائن» الطوب الأحمر التي يشتهر بها الساحل النهري المواجه لضاحية الجريف، غير أن غياب هؤلاء العمال في «الكمائن» لم يجعل من النسوة عنصراً غالباً بين ال(50) مقترعاً الذين زاروا المركز حتى الساعة الثالثة عصراً، أي قبل ساعتين فقط من نهاية اليوم الأول للاقتراع.
ربما كان هذا الضعف متوقعاً من قبل جهات عدّة ذات صلة بعملية الاستفتاء ونجاحه، وحينها لن تكون هيئة دعم السلام والوحدة غائبة عن هكذا حدث، إذ كان رئيسها «بول ليلي» حاضراً بقامته المديدة في أغلب المراكز، يحث على التصويت، ولا يتحرج من الدعوة إلى الوحدة ومزاياها، رغم انتهاء الزمان المحدد لذلك قانوناً.
سألناه عن مدى قانونية جولته على المراكز، التي ربما رجحت إحدى الكفتين، أو شوشت على أحد المقترعين، لكنه أجابنا بأن زيارته تأتي «في إطار إداري».
المراقب لشأن مجريات الاستفتاء يلحظ بلا عناء ودون تمحيص، ضعفاً آخر وخطأً كبيراً تمثل في الغياب الكامل لممثلي الأحزاب السياسية عن جميع مراكز الاقتراع، فضلاً عن غياب الحركة الشعبية؛ شريك اتفاقية السلام، فأصبحت مقاعد المراقبين محتلة من قبل عدد من الصبايا اللائي يمثلن منظمات للمجتمع المدني، ربما لم يكن لها وجود قبل هذا الاستفتاء، وحينما تكرر غياب الأحزاب عن جميع المراكز التي زرناها؛ كان علينا أن نستعين بأحد رؤساء مراكز الاقتراع لفك طلاسم ذلك الغياب، إلا أنه ردنا دون إجابة سوى النصح بأن نبحث عن تلك الأحزاب لنسألها عن سر غيابها، وها نحن نفعل، لكنّه قطع بعدم ممانعة المفوضية في وجود أيّما حزب.
ونحن ندلف إلى أحد المراكز؛ تعثرت خطانا بالمواطنة ربيكا شارلس وهي تعمل في الشرطة السودانية برتبة عريف.. تقول ربيكا للصحيفة: «بالرغم من أنني مريضة، ولكنني لا أستطيع أن أمتنع عن الحضور فالأمر يتعلق بمصيري ومصير أولادي الذين يدرسون في الجامعات، وأنا أسكن في الحاج يوسف ولديّ بيت هنا، فلو حدث الانفصال لا أستطيع أن أترك أولادي، لا أستطيع أن أترك عملي حيث أتمتع بالماء والكهرباء، ولو ذهبت إلى الجنوب فلن يوفروا لي هذه الخدمات ولن يوفروا لي الأمان، لا أريد أن أعيش تحت ظل شجرة، ولذلك سوف أصوت للوحدة»، ومضت ربيكا في الحديث حتى خنقتها العبرة، وقد امتدت المخاوف لتشمل قطاعاً كبيراً من المقترعين في مراكز الخرطوم بحري وشرق النيل.
بالنسبة لديفيد الذي خرج من غرفة الاقتراع بمركز طون أروك بحي البركة بالحاج يوسف فقد استوقفناه وسألناه عن ما هي شواغله وهواجسه وطموحاته وهو يدلي بصوته؟ فبدا ديفيد الذي تعدى العقد الثالث من عمره بقليل قلقاً حول مستقبل تقرير مصير أسرته فهو زوج لامرأة من قبيلة شمالية ويكفل بالتعاون مع شقيقه الآخر والديه وأخوته من عمله في القوات المسلحة طيلة 16 عاماً إلى جانب عمل شقيقه في قوات الشرطة. يقول ديفيد إن القلق يساوره وزملاؤه الجنوبيين: هل سيتم الاستغناء عنهم في حال وقوع الانفصال؟ ويضيف ديفيد «الانفصال هذا عمل السياسيين أما أن تلغى وظائفنا فهذا خلل، تبقى لي عام واحد لأستحق امتيازات المعاش وإذا تم فصلنا سنفقد كل شيء. ومضى ديفيد «وسيظل القلق يلاحقه لأنه بحسب ما قال لم يقرر وأسرته حتى الآن ما يتوجب عليهم فعله هل سيرحل إلى مسقط رأسه بمدينة واو وزوجته من قبيلة الكواهلة؟ هل يبقيها أم يأخذها معه إلى تلك الديار التي غاب عنها طويلاً؟!
أما استنة بيتر فلم تكن تعلم ما يحدث حولها، كل ما كانت تعلمه أن الجنوب سينفصل عن الشمال فمضت قائلة «إن اتولدت هنا اعمل جندية في مستشفى الشرطة ولدي أطفال وحتى أمي وأبي موجودون هنا، ليست لي أي علاقة بالجنوب فكل من عرفتهم وأحببتهم الآن حولي، لماذا أرحل إلى الجنوب؟» وختمت استنة حديثها بمقولة «كل منا يتوجه للمكان الدايرو وأنا مكاني هنا في الشمال».
خطانا تعثرت كذلك بسعاد.. اختلطت ملامحها الابنوسية كاختلاط جنسها حيث جاء والدها من أقصى الشرق ليلتقي بوالدتها من أقصى الجنوب لتكون المحصلة فتاة «محسية جنوبية» فقالت سعاد جبارة ل(الاهرام اليوم) أمي من الاستوائية وأبي محسي من توتي فنحن أسرة مسلمة حضرت من الجنوب قبل شهر ونسبة لأن توتي لا يوجد بها مركز جئت لاقربائي في الديم فأدليت بصوتي هنا.. وتمضي مواصلة تم منع اخواتي من التسجيل عن طريق تهديدهن من قبل أفراد، لذلك هن الآن موجودات في المنازل. وعن خيار الوحدة والانفصال ذكرت «نحن سودان واحد وكلنا سودانيون واكثر مصالحي تقتضي أن اختار الجنوب دوناً عن أسرتي المستقرة في توتي».
(الأهرام اليوم) في تجوالها التقت أيضاً بالحاجة نعيمة عبد الله التي قالت بعد فترة من الصمت «أولادي لازالوا يدرسون هنا والمعيشة في الجنوب صعبة ولا ندري ما لنا وما علينا» .. وبعد دقائق ليست بالكثيرة أردفت ابنتها العشرينية بعد أن اعترت قسمات وجهها ملامح الحزن والأسى فأضافت سوزي الياس قائلة «أنا أدرس جامعة النيلين كلية القانون المستوى الثالث ولي فترة وأنا ضائعة بين اليقظة والأحلام ولا أدري ما مصيري وما مصير مستقبلي فكل ما بت أعرفه الآن بعد طول تفكير إنني لن أترك الشمال مهما دعت الظروف وسأكمل مسيرتي العملية وبعدها المهنية هنا إن شاء الله».
رئيس المفوضية؛ البروفيسور محمد إبراهيم خليل، زار عدداً من المراكز في العاصمة بصحبة المراقبين وأعضاء المفوضية، ووجه بتغيير زمن الاقتراع من الساعة الثامنة صباحاً حتى الساعة السادسة مساء، بدلاً عن الساعة الخامسة مساء، وقال خليل في تصريح ل(الأهرام اليوم) إن التسجيل يسير بشكل جيد، وعزا الإقبال الضعيف إلى دوام العمل في الولايات الشمالية الذي ينتهي في الساعة الرابعة، وقال إن ساعة واحدة لا تمكنهم من من الذهاب إلى منازلهم ليلحقوا بزمن الاقتراع، ووعد بتذليل الصعاب الفنية التي تواجه عملية الاستفتاء، في نفس الوقت الذي فشلت فيه مدرسة سعد بن أبي وقاص بشرق النيل في تقديم نموذج حي للاقتراع لرئيس المفوضية، نسبة لعدم وجود مقترع جنوبي، وشعر مدير المركز بالحرج متعللاً بأن غالب الجنوبيين في المنطقة يعملون في الكمائن وليس باستطاعتهم تركها.
خليل قال إن الجنوبيين الذين أقبلوا على التصويت بالجنوب فاقوا طاقة الموظفين بالمراكز، معتبراً أن هذا الإقبال هو إشارة إيجابية، وأبان أن الذي سجل اسمه في الخرطوم لا بد أن يصوت في الخرطوم، أو في المنطقة التي سجل فيها، وتستثنى من ذلك الأماكن التي بها صعوبة بالجنوب.
منبر السلام العادل سوَّد جدران العاصمة باللافتات المزخرفة بعبارات الفرح، وبالرغم من أن الدعاية للوحدة والانفصال قد توقفت تماماً بشكل مباشر، إلا أن منبر السلام لم يتوقف عن إطلاق شعاراته التحريضية بطرد الجنوبيين، ولكنّ المواطنين الشماليين لم يستجيبوا لتلك النداءات، المفتقرة إلى العمق الشعبي.
في مدرسة الديم بالخرطوم شرق، كان المواطن (ميون بوال ميون) ذو الستين خريفاً يتوكأ على عصاه ليدلي بصوته، كان غير قادر على السير، ولكن رغبته في وطن موحد هي التي حملته إلى مركز الاقتراع. يقول ميون للصحيفة: «هذه أول مرة أخرج فيها من المنزل نسبة لمرضي، ولكنني مجبر اليوم على الخروج، سوف أصوت للوحدة فأنا معوق كما ترى، ولا أستطيع أن أرحل إلى الجنوب، ولقد عشت عشرين عاماً من عمري في الخرطوم وكنت ولا زلت أعمل في السكة الحديد». ميون لم يكن لوحده، وإنما كانت بصحبته زوجته أماني أكوت، التي ظلت ترافقه طيلة تلك السنوات، أماني طغت على عينيها موجة حزينة، ولم تبخل علينا بالحديث، حيث أشارت إلى أنها استقلت هي وزوجها (ركشة) كلفتهما عشرة جنيهات؛ لتحضر إلى مركز الاقتراع وتدلي بصوتها للوحدة، وأضافت أماني: «إذا قرروا طردي من الشمال سوف أرمي نفسي في النيل»، واستطردت: «هذا هو وطني، ومن الصعب أن أخرج منه». أماني ربطت مصيرها بمصير نتيجة الاستفتاء وقرارات السياسيين بخصوص الجنسية المزدوجة، وبقاء الجنوبيين في الشمال من عدمه.
داخل مراكز الاقتراع بالخرطوم، كان من اللافت انتشار الشرطة السودانية في كل المراكز، وفي مركز الساحة الشعبية بوسط الخرطوم، تبين لنا أن العدد الكلي للمسجلين بالمركز (400) شخص، وقد أدلى (15) شخصاً فقط منهم، حتى منتصف يوم أمس من بينهم د. لام أكول رئيس الحركة الشعبية للتغيير الديمقراطي المنشق عن الحركة الشعبية، و د. لوكا بيونق وزير الرئاسة بحكومة الجنوب، وقال أكول ل (الأهرام اليوم) إن الاستفتاء يجب أن يكون عادلاً ونزيهاً، مؤكداً أن الجنوبيين لم يجدوا ما يبصرهم بمآلات الانفصال، معبراً عن أسفه الشديد لموت ما يسمى ب(مشروع السودان الجديد)، مضيفاً أن الانفصال الآن هو ضربة قاضية لهذا المشروع الذي لم ير النور، وذهب أكول إلى أن الضمان الوحيد لاستقرار الجنوب هو أن تكون الحكومة في المرحلة المقبلة انتقالية قومية ذات قاعدة عريضة، تشمل كل ألوان الطيف السياسي والعسكري بالجنوب.
كان ملاحظاً بالأمس أن أعداد الإعلامين الذي يغطون العملية أكبر من المصوتين أنفسهم..!!
في الوقت الذي بدت العاصمة فيه أكثر هدوءاً، وقد تعاملت مع الانفصال كأنه واقع معلن دون تصويت ونتائج، فإن الحركة الشعبية في الضفة الأخرى بمعاونة المجتمع الدولي تؤكد أفعالها هذا الأمر، وفي اليوم الأول للتصويت حرص كل من جون كيري رئيس لجنة العلاقات الخارجية بالكونجرس الأمريكي، والممثل العالمي الشهير جورج كلوني على أن يكونا حاضريْن في الجنوب.
ومن المعلوم أن عدد الجنوبيين الذين سجلوا أسماءهم بالشمال بلغوا أكثر من (120) ألف نسمة، يرى مراقبون أن أكثر من نصف هذا العدد قد عاد إلى الجنوب وفق برنامج العودة الطوعية التي تبنته حكومة جوبا، كما أن المتبقين بالخرطوم سيكونون بين أمرين أحلاهما مر، فلو صوتوا للانفصال ففي تصورهم أنهم سوف يحرمون من الجنسية المزدوجة التي يرغبون فيها، ولو صوتوا للوحدة يخشون من بطش الحركة الشعبية بهم، ولذلك سوف يمتنع غالبيتهم عن التصويت، ووفق الخبراء ربما لن يذهب للتصويت سوى (30) ألفاً بالخرطوم على مدى الأسبوع لتكون المحصلة في النهاية إقبالاً ضعيفاً للغاية، ومن خلال رصدنا وجدنا أن أكبر مراكز التسجيل بالعاصمة هو مركز شرق النيل الذي تقدر أعداد المسجلين به بحوالي (1000) شخص، وباقي المراكز تتفاوت أعدادهم بها بين (300) إلى (400) شخص.
وفي مركز «دار السلام المغاربة» قالت ميريت ل (الأهرام اليوم): «أنا من مدينة ياي بالجنوب، أتيت إلى الخرطوم منذ 17 عاماً، ولي أبناء بالجامعات بالشمال، ولا يمكنني العودة إلى الجنوب الآن حتى ينتهوا من دراستهم»، مؤكدة أنه «رغم المضايقات المعلنة إلا أن حالة الارتباط والمحبة بيننا والشماليين قد زادت»، مضيفة: «إذا حدث انفصال ندعو الحكومتين إلى أن يكون انفصالاً ناعماً يحافظ علينا كمواطنين، ونحن كأفراد نريد بلداً موحداً».
عبر الهاتف من جوبا قالت مسؤولة المرأة بالمجلس الإسلامي بالجنوب؛ حبيبة لادو، ل(الأهرام اليوم): «سوف نذهب للتصويت اليوم الاثنين»، مؤكدة أن مسلمي الجنوب مع الوحدة، وأنه رغم طمأنات الحركة الشعبية بعدم المساس بهم، إلا أن الشارع الجنوبي يستنكر الوقوف مع الوحدة، موضحة أن هناك أعداداً كبيرة من المسلمين بالجنوب، وأن الخرطوم هي التي تدعم المجلس الإسلامي هناك، وقالت: «لو حدث انفصال ووجدنا اضطهاداً لنا سوف ننزح إلى الشمال»، لافتة إلى أن المجتمع الدولي في غفلة عما يحدث لهم بالجنوب، وقالت: «جلسنا مع الأمم المتحدة، وأطلعناها على أحوالنا، ولم تصدق كلامنا، ولم تفعل شيئاً من أجلنا».
ومن متابعات الصحيفة بجوبا، رُصدت بعض المخالفات، إذ شوهد أشخاص ليست لديهم بطاقات تسجيل، كما تم رصد إملاءات داخل اللجان بالتصويت للانفصال..!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.