مُراءٍ ولم يصب كبد الحقيقة كل من يدعي ويكابر بأن الانفصال لن يؤدي إلى ما يؤدي إليه، ولن ولم يتأثر السودان العريض سواء أكان الشمالي منه أو الغربي، أو حتى الوسط وهنالك من يعتقد خطأ وجزافاً بأنه في معزل عن الهزات السياسية والاقتصادية والأمنية المتوقعة جراء حال الانفصال وتداعياته ومخاطره المريرة القاتلة. وكل شواهد الأحداث ومعطياتها تشير بأن السودان الواحد الموحد في طريقه بأن يفقد جزءا عزيزاً من كتلته، إنه الجنوب الحبيب الذي أريقت بأرضه البكر وروته دماءٌ عزيزة علينا، وقبرنا في أراضيه أخوة أعزاء لنا وعلى أسرهم فكانت تعول عليهم الكثير بعد ما دفعت لهم دفع من لايخشي الفقر في تربيتهم وتعليمهم مستثمرة فيهم كمورد بشري بعد أن اهلتهم أكاديمياً وعلمياً، وما تداعت علينا الأمم كما تتداعى الأكلة على قصعتها، إلا عندما صرنا شتى فكانت أذكى منا وأكثر حصافة علينا فاستضعفتنا، ونظرت بأعين المستقبل البعيد للذي يرقد ويستريح في باطن وظهر أرض الجنوب من معادن وفيرة ونفط جم وخيرات زراعية وكثيرة كافية لتسد رمق منطقة البحيرات بأسرها، وألزمتنا باتفاقية نيفاشا المشؤومة. أنها لعبة الكراسي وحب وشهوة السلطة وداؤها العضال عند ساستنا الكرام حتى أوردونا موارد الهلاك دون أن يطرف لهم جفن، وعجبت لمسؤولين كنا نحسبهم كبارا ويوزنون الأمور بميزان من ذهب، إلا أنهم ما فتئوا يرسلون لنا الشارات السالبة مخدرين لنا بأنه ليس هنالك تأثير يذكر من مخاطر الانفصال وتداعياته، وتارة أخرى نجد هنالك من يفزعنا ويصرح ويقول بأن القوى السياسية بأجمعها تتحمل تبعيات وزر الانفصال، ليكتشف المراقب والمتابع الحصيف للشأن السياسي بأن هنالك خطرا محدقا يحيط بالسودان إحاطة السوار بالمعصم. وقادتنا الذين نظن فيهم خيراً هم أبعد ما يكون من أن تحدثهم أنفسهم بأن السودان القديم يسير بخطى ثابتة وحثيثة نحو المحرقة، وفي طريقه مباشرة إلى المجهول، مشيعاً بإرادة أبنائه الذين داروا ولفوا من حوله وكأنه فريسة فقدت الحراك وسلمت نفسها طواعية واختيارا لمفترسها الكاسر. واندهشت للشيخ حسن عبدالله الترابي وهو يدلي بإفادات جريئة ل«الاهرام اليوم» ويقول:( أن تؤسس البلاد على حكم شورى حر، والشعوب يمكن أن تتحد لكن الحكام لا يتحدون، وكل واحد منهم يريد أن يعلو على الآخر والانفصال في السودان صار أمراً واقعاً)، ويضيف الأب الروحي للحركة الإسلامية وأبرز مؤسسيها قائلاً:( إن المريض الذي لا أمل منه لابد أن يقول له الطبيب أنه سيمضي بعد ساعات الى رحمة ربه) انتهى. وهو الذي أي الترابي قد تقدمت به سنين العمر سياسياً، يتمادى في اصرار غريب مستصحباً معه المرائر والأحن التي ذاقها من إخوته ورفقاء دربه السابقين رافضاً من حيث المبدأ أن ينتقل لمربع آخر، مربع السماح والعفو عند المقدرة وهو الشيخ الكبير وروح الإسلام السمحة تأمره وتلزمه بذلك، في سبيل أن يكون السودان واحداً موحداً وقد قالها يوماً ما بأنه لديه المقدرة الكاملة لحل مشكلة دارفور في أقل من 24 ساعة، الآن الترابي متأبطاً عصاه مشمراً عن جلبابه يقفز بعيداً فوق التراب، وكأن ماهو ليس بطرف أصيل في هذا الوضع المأساوي المأزوم، ويكتفي فقط بنصيحة وإرشادات الطبيب بأن لا أمل في الشفاء، وعلى أهل المريض وهم أصلاً أهله بأن جهزوا لمراسم الدفن نصب سرادق العزاء والاستعداد على قدم وساق لاستقبال حشود المعزين، ولا أدري أهو معزٍّ أم معزىً فيه(بكسر الزال في الأولى وفتحها في الثانية) ام لا هذه ولا تلك؟. حتى بقية أحزابنا السياسية الأخرى لم تسجل موقفاً نبيلاً بطولياً يحفظه لها التاريخ في إرشيفه واكتفت فقط بأنها تتحسر وتأسف على السودان القديم، إن استثنينا السيد الصادق المهدي بتصريحاته المتوازنة وبإشاراته المعتدلة التي كان يرسلها بين الفينة والأخرى للشريكين المتشاكسين منادياً لهم بأن يضعوا الكرة على الأرض بلغة أهل الرياضة. اما المؤتمر الوطني صاحب (الجلد) فحكايته حكاية بعد أن تقطعت به الأسباب والسبل وأصبح قادته يدلون بإفادات متناقضة كأنه ليس لديه مؤسسية تضبط الألسن والكل على هواه يصرح، ولم أره يوماً في ضعف وتوهان بمثل ماهو عليه الآن متخبطاً في تصريحاته المتناقضة وهذا التوهان الذي لا يليق بقادته المتمرسين، وقد كان فيما يمسك بخيوط اللعبة وزمام الأمور بهدوء ورزانة وبرود وهو في أصعب المواقف وأحلكها، ولديه مقدرة مدهشة في الخروج من الأزمات وهو أكثر منعة وأصلب موقفاً، وأذكر تماماً عندما صرح السيد الصادق المهدي ل(البي بي سي) وقال (رب غارة نافعة للمؤتمر الوطني)، عشية ضرب مصنع الشفاء في السابع عشر من أغسطس 1997م، والمؤتمر الوطني يوظف ذلك الحدث ويستثمره ويكسب تعاطف المجتمع الدولي بعد أن أدارت آلته الإعلامية حملة منظمة وموفقة وبمهنية واحترافية عالية وقت ذاك رفعت من شأنه إقليمياً ودولياً. الآن كل مواطن حادب وغيور على وحدة السودان كان يتعشم في المؤتمر الوطني وهو صاحب التجربة الثرة المتراكمة، أن يخرجنا من هذا النفق المظلم الذي إدخلنا فيه بالتنسيق مع القوى السياسية ومنظمات المجتمع المدني، إلا أنه بكل أسف سباق الزمن يمضي مسرعاً. وبالحسابات المتاحة كل شواهد الأحداث تشير إلى أن السودان قد خسر الرهان وفازت الجهات التي تربصت به وانتصرت الأجندة الخفية والأيادي التي عبثت وتلاعبت بأحرف اتفاقية نيفاشا البغيضة، وكانت الفاجعة التي لم نتحسب لها بأننا سوف نتفرق إيدي سبأ ونذهب وتتفرق بنا الطرق إلى المجهول. فإن كان ذلك كذلك فمما لاريب أو شك فيه أنها النهاية المحزنة، أنه وطن أضعناه عندما كانت مرامينا وأهدافنا وأشواقنا أن نبعد الآخر ونزيحة ولا نتحمل وجوده حتى إن كان في مقعد المعارضة. والمعارضة كانت تبادل زاجريها غبنا بغبن، وكيد بكيد، وفي غفلة هذه المشاكسات وجد الجميع أنفسهم وجها لوجه داخل نفق مظلم وطويل، فمن يبكيك يا وطني بدمع هتون؟ من؟ الواحد القهار وحده الذي يعلم إلى أين نحن ذاهبون والأمم من حولنا تضرب كفاً بكف شفقة علينا مستشهقة مستعجبة من أمرنا وذبول الوطنية عندنا وانزوائها في ركن قصي بالدواخل. القضارف