اضطر السيد وزير المالية والاقتصاد الوطني هذه الأيام للنزول الى «شارع الندوات والسمنارات» ليضع بعض الحقائق المؤلمة أمام عدسات الرأي العام، وذلك تحت عنوان «تمليك المعلومات للرأي العام». لكن في المقابل ليس كل هذه الأزمات والمصاعب التي تواجهنا هي من صنع الآخرين، فبعض هذه الأزمات من صنع أنفسنا، مما كسبت أيدينا، فهنالك أزمة غذاء عالمي.. نعم، هنالك انشطار مرتقب في جدار الوطن له بعض التأثيرات، اللهم نعم، لكن في المقابل هنالك قصور في «التخطيط الإستراتيجي الوطني»، نعم وألف نعم، فليس بإمكاننا أن نحاسب أحداً ونسأله بشأن الأزمة المالية العالمية، كما أن مسألة «استقلال الجنوب» مسألة تخص في المقام الأول شعب الجنوب نفسه، ولو كان في مكانهم لسعينا لنيل استقلالنا، وذلك برغم مرارة الافتراق وقساوة الانشطار وآلام مخاض الدولة الجديدة، لكن بإمكاننا في المقابل أن نقدّم بعض منظري وأفندية الاقتصاد للمسألة، وذلك قبل أن نستبدلهم ونستبدل خططهم لنذهب الى مرحلة جديدة مختلفة تماماً. قال السيد وزير المالية في إحدى الندوات منذ أيام، وهو يومئذ لا يتحمل نتائج تلك الأخطار الاقتصادية التراكمية، قال إن أزمتنا الأساسية أننا نستورد ثمانين بالمائة من استهلاكنا المتزايد لسلعة القمح، وأن السودان في العام المنصرم قد استورد قمحاً بمليار دولار أمريكي! كما استوردنا أيضاً عربات مستخدمة واسبيرات بما يقارب نصف مليار دولار! والسيد وزير المالية من جهته قد عالج أزمة العربات المستخدمة التي كانت تستنزف الموارد الأجنبية، وذلك بإصدار قرار محكم يقضي بعدم استيراد عربات مستخدمة نهائياً، وهو بذلك يوفر للبلاد عملات سنوية تقدر بنصف مليار دولار! لكن في المقابل ما هي الجهة التي بإمكانها أن تصدر قراراً شاهقاً يسترد للشعب السوداني موارد هائلة تقدر بمليار دولار، وهي الموارد التي نستنزفها في استيراد سلعة القمح! من يصدر قرار القمح، من يقرر أننا دولة زراعية تمتلك الأرض البكر والماء العذب والأيدي العاملة؟ ويفترض والحال هذه، أننا ننتج من القمح ما يكفي استهلاكنا المتزايد ونصّدر ما قيمته مليار دولار لندعم بها اقتصادنا، من هو ذلك الرجل المؤهل لإصدار مثل هذا القرار، القرار الذي يجعل طاقة النفط والكهرباء في خدمة الزراعة، بل يجعل كل الوزارات في خدمة الوزارة الأم، أعنى وزارة الزراعة، على ألا تذهب الموارد الى أية جهة إلا بعد أن تأخذ وزارة الزراعة كل حظوظها وميزانياتها ومتطلباتها. أليس من العار أن يستورد السودان قمحاً بمليار دولار؟ ولماذا أصلاً لا تحدث أزمة غذاء عالمية، إذا كان القطر المرشح ليكون ثلة غذاء العالم يصبح عالة على العالم، وهل ننتظر أن يُزرع القمح في صحاري و(ضهاري) الدول التي لا تملك مقومات الزراعة، ودعك من الشعوب الإسلامية والعربية فيفترض أن يطعم السودان كل الانسانية التي على ظهر الأرض، ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم «في كل كبد رطب أجر». سيدي رئيس الجمهورية، الموقر، ليس غيرك من يصدر هذا القرار الاستراتيجي، بأن «السودان دولة زراعية» وربنا سبحانه وتعالى خلقها لهذا الغرض، أن تطعم نفسها وتطعم الآخرين، وأن نعلن مباشرة مشروع «الثورة الزراعية»، أن تتجه الدولة بكلياتها لبناء السودان الأخضر، على أن تسعى الدولة لإنشاء محفظة زراعية عربية وذلك بالتعاون مع الأشقاء العرب الذين يعانون ذات الأزمة، محفظة بمائة مليار دولار أمريكي، ليس محفظة بائسة من مصارفنا الفقيرة ومواعيننا المالية التي هي جزء من الأزمة المالية والاقتصادية، وذلك بقلة حيلتها مرة وفي شح مواردها تارة أخرى، فتمويلات البنك الزراعي في معظمها تتحول للقطاع التجاري ويذهب المزارعون للسجون، لأنه أصلاً لا توجد زراعة، فنخسر التجار ولا نربح الزراعة. سيدي الرئيس، الأمر يبدأ بإحالة كل الذين ظلوا عالقين بملف الزراعة والاقتصاد لمدة عشرين عاماً، إحالتهم الى المعاش، فهم جزء من الأزمة، ثم نبدأ عهداً جديداً بعقول جديدة وإرادة قوية، وللحديث بقية.