{ مَن مِنّا لم يَتمنَّ في طفولته المبكرة أن يصبح طبيباً؟ لقد كانت الإجابة التقليدية لسؤالنا عن الغد هي التشبُّث بأمنية عزيزة على قلوب الجميع (داير أكون دكتور)، وهذا ببساطة لأن الطبيب كان - ولا يزال - في عُرفنا الاجتماعي رجل الساعة والمال والهيبة والألق الاجتماعي والعمل الإنساني. وقد أثبتت الأيام على مر العصور صحة هذه النظرية، فالأطباء دائماً يتمتعون بمزايا الاحترام والإعجاب والغِنى والتوقير أينما ذهبوا. { الآن أصبح الأطباء في بلادنا أكثر من المرضى، لم يعُد من الصعوبة بمكان أن تصبح طبيباً مثلما كان في قديم الزمان، حينما كان الدخول إلى كلية الطب يستدعي جهداً جهيداً وعملاً دؤوباً ونبوغاً فطرياً. فقد أصبحت كليات الطب في الداخل والخارج (بالكوم) ويمكنك أن تدرس بها كيفما أُتفق مع وضعك المادي، حتى أن البعض يذهب للاعتقاد بأنه بات بالإمكان دراسة «الطب» ولو كانت شهادتك الثانوية أدبية! { لقد فقد الطب هيبته جزئياً؛ فالأجيال الأخيرة فقدت مصداقيتها الطبية اللازمة، وحتى الشكل المعتاد للطبيب لم يعد معروفاً وواضحاً كما كان؛ فقد كانت سيماء الأطباء على وجوههم، بنظراتهم العميقة، وهدوئهم وتهذيبهم، وأحياناً نظارتهم الطبية، وأياديهم الناعمة، وأظافرهم المقصوصة بعناية وغيرها. وأصبح من المعتاد أن ترى الأطباء في (الجينز والكاجوال) وشعورهم تلمع تحت سطوة (الجل). أما الطبيبات فحدِّث ولا حرج، وإذا خرجتم عليّ بدعوى أن المظهر لا علاقة له بمستوى إجادة المهنة فسأؤكد لكم أن بعض المرضى والمرافقين أصبحوا يعرفون عن الأمراض والأدوية من المعلومات العامة أكثر مما يعرفه هؤلاء الأطباء. وحتى هم أنفسهم فقدوا الثقة الكافية في قراراتهم أو تشخيصهم للمرض، فتجدهم دائماً مترددين وحائرين وقد يلجأون إلى السؤال أحياناً قبل أن يصفوا لك العلاج اللازم الذي سرعان ما يفنِّده زميل آخر لأحدهم. لتدور الدائرة من جديد ونجد أنفسنا في الآخِر قد فقدنا ثقتنا في أطبائنا وهرعنا بحثاً عن العلاج بالخارج مهدرين المال والوقت وفينا الكثير من السخط على هذه النماذج. { فلماذا يحدث معنا كل هذا؟ ولماذا نعاني من تردي الخدمات الصحية رغم كثرة كليات الطب وتزايد أعداد الأطباء، بينما كان من المفروض أن يحدث العكس؟ ولماذا أصبح بعض أطبائنا مهملين يفتقرون (للحِنيّة) والصفة الملائكية؟ علماً بأن «ملائكة الرحمة» لم تكن عبارة تقتصر على الأطباء ولكنها تتسع لتشمل الممرضين وفنيي التخدير وأطباء المختبرات وكلها فئات أصبحت تعاني من خلل في تقديمها الخدمات العلاجية المفروضة. { أقول هذا، وأنا أعرف الكثير من الأطباء العظام الذين يولون المرضى جُل اهتمامهم ويسعون دائماً لتطوير ذواتهم والإلمام بكل التفاصيل الحديثة في علومهم الطبية ليكونوا دائماً عند حسن الظن بهم وعلى كامل المواكبة، وأعرف أيضاً ممرضين وفنيين على درجة عالية من الالتزام والبشاشة و(الشطارة). ودون المساس بأقدارهم السامية في نظري أُندِّد بآخرين ربما دخلوا المجال الطبي من باب المصادفة، أو بغرض (البرستيج) أو لإرضاء ذويهم، أو (عدم موضوع منهم). ولكن النتيجة الحتمية أن مهنة الطب النبيلة أصبحت تعاني الأمَرَّين من هؤلاء الدخلاء الذين لا يفقهون - على كثرتهم - الكثير ولم يضيفوا شيئاً للمهنة ولا لأنفسهم ولا للبلاد والعباد. وقد أصبح لقب «دكتور» المُقدَّس يُلقى جزافاً على كل من هبَّ ودبَّ، رغم أنه أبعد ما يكون عن هذه (الدكترة) بكل ملامحها الإنسانية قبل العلمية، ففيهم (الأصنج) والمغرور، الذي يفتقر إلى اللباقة والكياسة ورحابة الصدر في مجال تُعتبر فيه القدرة على احتواء المريض ومن معه نفسياً من أولويات العلاج، ولكن طلاب الامتياز وصغار الأطباء لا يعرفون شيئاً عن (الكلمة الطيبة) أو الابتسامة - إلا من رحم ربي - بل أن بعضهم يعتقد أن (القطامة) والتعالي والتجاهل من ضروريات المهنة، أو ربما يستخدمها لإخفاء عجزه الواضح عن تقديم خدمة طبية متكاملة كانت السبب المباشر في ذيوع ثقافة الأخطاء الطبية وتردِّي الخدمات الصحية لنموت نحن (موت الضان) ويزدادون هُم تكدُّساً على قلب وزارة الصحة.. ولنا الله. { تلويح: كان (الدكاترة ولادة الهَنا) والآن أصبحوا.. (ولادة الهَم).