كنت أحمل همَّاً لهذا اللقاء، وذلك لسببين اثنين، فصديقي هذا الذي لم ألتقِ به منذ سنوات لا يعرف كيف يحفظ وقته ووقتك، فما يقال في خمس دقائق يقوله في ساعة كاملة، غير أن العبء الأكبر يكمن في إلحاحه على أن تسايره في ثقافة الانتقاص من حق الآخرين، فمنذ أن عرفته (لم يعجبه العجب ولا الصيام في رجب)، هو دائماً على حق والآخرون على باطل وضلالة. { وبدأت معاناتي مع «تفاصيل التحايا والسلام» وهو يمطرك بعبارات السلام ولا يترك لك مجالاً للرد والتقاط الأنفاس، وهذه تذكرني بواقعة طريفة من حلتنا، بطلها المرحوم جمال هاشم، وكان قد التقى بأحد الأصدقاء، فأمطره ذلك الصديق بعبارات السلام المتلاحقة ولم يدع له فرصة ليبادله التحايا، فقال جمال - يرحمه الله: «لكن بتقول اللِّيلي واللِّيلك»، بمعنى، أنك تسأل عن أحوالي وحالي ثم تقوم أنت ذاتك بالرد على أسئلتك! { صبرت وتصابرت حتى مضت «موجة السلام» العارمة، لندخل إلى فصل آخر هو أشد وطئاً، قال لي: «شفت الوالي الجابوه لينا الجماعة ديل»، قلت نعم، قال: «دا زول ما فيه فايدة»، ثم انتظرني أن أذهب معه في هذا الاتجاه، فحاولت أن أهرب من هذا المأزق إلى مربع آخر، فقلت: «ربما كان الوالي السابق أجدر»، قال: «الوالي السابق أسوأ من هذا»، حاولت أيضاً الهروب باتجاه الوالي الأسبق فقلت: «ربما كان الوالي الذي قبلهما هو الأنسب»، قال «كلهم كذلك»!، حاولت أن أتعرض لبعض المكتسبات التي أُنجزت في عهد هؤلاء الولاة، لكن صاحبي لا يعترف بثقافة (نصف الكوب المليان) فكل الأكواب عنده فارغة، والقصة ليست عنده قصة حكومة ومعارضة، فهو أصلاً «لا يرى في الوجود شيئاً جميلاً»، يلبس نظارة سوداء كل الوقت، فلم أشهده يوماً وهو يؤمن بإنجازه مهما علا شأنه، كما لو أنه ينتمي لأولئك النفر الذين قالوا للرسول «صلى الله عليه وسلم»، أو القصة كما سردها القرآن الكريم: «وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلا أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولاً». { وهنالك قصة قد سردها لي عشرات المرات، تمنيت لو لم يذكرها لي هذه المرة، ولم استفق من تمنياتي تلك حتى بدأ يحكي لي قصته الشهيرة، قصة اغترابه الفاشلة، ولكنه لا يعترف بفشلها، الآخرون هم الفاشلون ولا يستحقون أن يبذل لهم كرائم أفكاره وفلسفته، وهو بالكاد جاء مُرحّلاً من تلك المهاجر، صديقي هذا لم ينجح في أية مهمة غير نجاحه في استنزاف وقت الآخرين والنيل منهم، فاستعنت بالله والصبر حتى يقص عليّ «مجموعة قصص الاغتراب» القديمة الجديدة، والمدهش جداً أن صديقي هذا قد فقد حس المقدرة على إنتاج قصص، ولو كانت بايخة ولكنها جديدة، ليقصها علينا حتى لنقول إنه في هذه المرة قد أتى بجديد، كل أشيائه قديمة حتى قميصه المشجّر وبنطاله الرمادي وتسريحته المبعثرة، وليس هذا، بل ربما منذ عشر سنوات هو على حاله كأن الزمن قد توقف به في محطة بعينها. { انتظرت أن تكون له بعض الإشراقات، لكن لا جديد له وهو ينتقل من ملف لآخر، السياسة و(الكورة) وملفات الأصدقاء المشتركين وكلهم يومئذ (سجامى)، حتى أشفقت على نفسي عند زيارة صديقي هذا لصديق آخر، فلا محالة سيكون «صاحب الملاذات»، عليه من الله الرضوان، في قائمة (السجامى)! إنها قائمة تسع الجميع، على الأقل إن هنالك كثير من الأخيار، هم خير مني، موجودون في هذه اللستة التي لا تتغيّر كما أنها تلك القائمة الأمريكية التي تقول عنها واشنطن «قائمة الدول التي ترعى الإرهاب». { وهنالك سؤال يفرض نفسه، لماذا هو أصلاً صديقك، وهذه قصة أخرى، فهنالك من الأصدقاء ليس من صداقته بُد، عليك فقط أن تظفر بأجر هذه الصداقة، لأنه في الحديث الشريف «إن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من الذي يعتزلهم». مخرج: ولعلنا نجد بعض السلوى في أبيات الشاعر بشَّار بن بُرد: إذا كنتَ في كل الأمورِ معاتِباً صَديقَكَ لَمْ تَلْقَ الذي لاَ تُعَاتبُهْ فعِش واحداً أو صِل أَخاك فإنَّه مُقارفُ ذَنْبٍ مَرَّة ً وَمُجَانِبُهْ إِذَا أنْتَ لَمْ تشْربْ مِراراً علَى الْقذى ظمئتَ وأيٌّ النَّاسِ تَصفو مَشَارِبُه وقول علي بن الجهم: وَمَن ذا الَّذي تُرضى سَجاياهُ كُلُّها كَفى المَرءَ نُبلاً أَن تُعَدَّ مَعايِبُهْ