«الشعب يريد إسقاط النظام».. «الشعب يريد إبقاء النظام» هكذا بدت الحالة في مصر ما بين معارض لاستمرار الرئيس مبارك، وبين مؤيد لبقائه، حالة انقسام حاد يشهدها الشارع المصري أدت في النهاية إلى أعمال عنف وفوضى عارمة داخل ميدان التحرير في غياب تام للشرطة، بينما بقي الجيش يتفرج، الأمر الذي أدى إلى سقوط قتلى وأعداد كبيرة من الجرحى. وظهر الانقسام داخل الشارع بعد خطاب الرئيس مبارك ليلة أمس الأول الذي قدم خلاله حزمة من الإصلاحات كان يتمناها الشعب المصري منذ سنين، وجاء أبرز التعديلات في عدم ترشيح الرئيس لولاية رئاسية جديدة، وإصلاح المادتين (76، 77) من الدستور بما يتيح لأي شخص الترشح لرئاسة الجمهورية، إضافة إلى سرعة النظر في الطعون المقدمة ضد نتائج انتخابات مجلس الشعب الحالي. عندما يقول مبارك إنه لن يرشح نفسه لفترة رئاسية جديدة فهذا معناه أنه سيظل في الحكم ل(7) أشهر فقط، لأن الانتخابات الرئاسية بمصر ستجرى في سبتمبر المقبل، ويرى بعض المراقبين أن هذه فترة قليلة يجب أن تترك للرئيس في مقابل حزمة كبيرة من الإصلاحات لن يقدر على تنفيذها سوى مبارك لأنه يعي تماماً الثغرات ويستطيع التعامل معها بسرعة، بالإضافة إلى أنه سيحاول أن يختم تاريخه بعمل مشرف لصالح مصر. في المقابل يرى بعض آخر من المراقبين أن مبارك يريد ترقيعاً للدستور وأنه لن يفعل شيئاً، ومن الأفضل أن يرحل. ويذهب فريق آخر إلى أن مبارك مهما اختلف أو اتفق عليه الجميع فمن حقه أن يخرج بكرامة وليس بهذه الطريقة المشينة، وأن (7) أشهر ليست بالكثيرة، ويؤكد هذا الفريق أن مبارك لو تنحى الآن سيأخذ تشكيل حكومة انتقالية في مصر أكثر من سبعة أشهر بسبب الخلافات التي بدأت تظهر على السطح بين الأحزاب، وأن من الأفضل لهذه القوى السياسية أن تذهب لتعد نفسها في هذه الفترة الوجيزة لتعرض نفسها على الجماهير التي لا تعلم عنها شيئاً، حتى يجد المواطن أمامه خيارات يستطيع الاختيار من بينها. المشهد في مصر أمس (الأربعاء) شوّه الصورة الجميلة للثورة التي أطلق عليها ثورة «الياسمين»، وتحولت الصورة إلى مسرحية هزلية من نوع الكوميديا السوداء، ولم يعرف أحد من المستفيد من هذه الأحداث التي خلفت العشرات من الجرحى حتى كتابة هذا التقرير. كانت قراءة هذه الحالة في البداية أن القيادة في مصر تريد مبرراً لدخول الجيش لفض المتظاهرين، ولكن بمرور الوقت وتزايد عدد الجرحى نُفي هذا التصور، ليجعلنا أمام كارثة كبيرة الخاسر الأول والأخير فيها مصر، في غياب تام لعقلاء الأمة، ومناشدات من بعض رجال الدين للمتظاهرين بأن يعودوا إلى منازلهم. وفي تسليط إعلامي ودولي كبير على مصر، الكل حريص على مصالحه، من سيأتي ومن سينفذ الأجندة، الأمريكيون يقولون على لسان رئيسهم باراك أوباما يجب التغيير الآن، والأوربيون يقولون إن إصلاحات مبارك جاءت على الطريق الصحيح للإصلاح. بعد إلقاء الرئيس لخطابه أول أمس استضافت الإعلامية المصرية منى الشاذلي في برنامجها الشهير «10 مساء» بفضائية (دريم) رئيس الوزراء المصري الجديد الفريق أحمد شفيق في أول ظهور له بعد تكليف الرئيس له، الرجل عرض نفسه بصورة جيدة، بدا واثقاً من نفسه ومن أنه قادر على فعل الكثير في هذه المرحلة الحساسة التي تمر بها البلاد، ولم يتردد في نقد الحكومة السابقة، وأظهر أنه يعرف مناطق الخلل، وطريقة معالجتها، وطلب من الشعب المصري أن يمهله الوقت ليرى كيف يدير الأمور، وبرر « شفيق» وجود عناصر كثيرة من الحكومة السابقة في وزارته الجديدة بأنه أزاح كل رجال الأعمال من الوزارة، كما أزاح كل الذين لهم خلافات مع الشعب مثل وزير التربية والتعليم «أحمد زكي بدر» إلا أنه أكد على أن بدر من أفضل الشخصيات في الحكومة السابقة وأن مشكلته كانت في محاربة المشاكل بالوزارة، وفي أنه شخص صدامي، أما «علي مصيلحي» وزير التضامن الاجتماعي فقال: «لا يمكنني أن أتركه في الوزارة الجديدة لأن الرجل قائم على نظام كبير داخل الوزارة لم يكمله، وأي شخص سيأتي بعده سيعطل مسيرة هذا البرنامج»، مؤكداً أنه لن يتوانى عن إزاحة أي وزير يثبت أنه غير قادر على أداء مهمته حتى لو كان هذا الأمر بعد أسبوعين فقط من توليه الوزارة، كما أكد شفيق أنه لن يكون مجرد موظف في الحكومة وأنه سوف يديرها بطريقته، وأنه لن يتراجع عن الاستقالة إذا أحس أنه لن يستطيع عمل شيء. كما انتقد «شفيق» الحوار الذي رفضته المعارضة، وقال: «كانت هذه مطالبهم فلماذا يرفضون الآن؟» منوهاً إلى أنه لن يدير حكومته من مقر «القرية الذكية» التي كان سلفه د. أحمد نظيف يدير منها الوزارة، وقال: «هناك مجلس للوزراء في مصر سأدير الأمور منه»، مشيراً إلى أنه يعرف كل المشاكل في البلاد وأنه سيبدأ في حلها بالتوازي. إذن نحن أمام شخص يعرض نفسه بصورة جيدة على المستوى النظري، وما علينا إلا أن نعطيه الفرصة حتى نرى الواقع العملي لهذا الحديث. وعلى صعيد المعارضة نجد رفضاً تاماً لما جاء في خطاب الرئيس، إذ أنها مصرة على رحيله رغم كل هذه الإصلاحات التي تضمنها خطابه، وفي ميدان التحرير هناك شباب متحمسون يرون أن هناك عدداً كبيراً من القتلى خلفته الأحداث، وأن مبارك هو السبب في ما حدث ويجب أن يرحل، وفي الصورة يقترح فريق من الناس أن مبارك يخشى أن يرحل وبعد ذلك تطلب محاكمته وتجميد أمواله، ولذلك من الممكن أن يحصل الرئيس على ضمانات بعدم حدوث ذلك في مقابل رحيله. ويبقى أننا مهما اتفقنا أو اختلفنا مع الرئيس يجب أن يأخذ الفرصة لأن يخرج بكرامة من حكم دام ثلاثين عاماً كانت له فيها إيجابيات لا يمكن أن ينكرها أحد، فخطابه كان يحمل فوائد لكل الأطراف المتصارعة، فالشعب حصل على كثير من التنازلات كان لا يحلم بها قبل الخامس والعشرين من يناير، والمعارضة ضمنت عدم ترشيح الرئيس مرة أخرى، والرئيس يريد أن ينهي تاريخه بكرامة.