ماراثون الاستفتاء قد انتهى، وها هو الجنوب بدأ يتهيأ لتكوين الدولة، وما بين هذا وذاك تظل القوى السياسية في الشمال في حالة ترقب وحراك إيجابي تارة، ومضاد تارة أخرى، خاصة أحزاب المعارضة في مواجهة أحزاب الحكومة، وفي هذا تتداخل اتجاهات القوى السياسية؛ اختلافاً، تحالفاً، استقطاباً. إذن فالكرة تتدحرج نحو المواقيت المهمة من عمر السودان الدولة ذات الاتحاد الواحد بين الدولتين، أو الدولتين بدون اتحاد، من هنا وحتى ما هو قادم من تداعيات، والكل ما زال يجمع -حكومة ومعارضة- على ضرورة توفر حراك وطني عام بعيداً عن أجواء التوتر والشحن العقدي أو الطائفي أو الاستقصائي، حراك يمكن البلاد من العبور بنجاح ويعزز من قيمة الدفاع عن المصالح الحيوية التي تربط الشمال والجنوب، فما بين الجنوب والشمال روابط وعوامل دفع تتغلب على كل عوامل الإبعاد والتجافي والتمزيق، حتى نجعل من الحدث المقبل حدثاً للأمن والاستقرار والسلام، لأن ذلك كله لن يتأتى إلا بسلوك سياسي راشد ومسؤول من كل القوى السياسية، شمالها قبل جنوبها، فهل ستشهد الأيام القادمة حضوراً وطنياً حتى نتجاوز المعضلات التي تواجه السودان في ظل الانفصال والتهيئة لدولة الشمال؟ مساحة من الحوار جمعتنا بالأستاذ التجاني مصطفى يس الأمين العام القطري لحزب البعث العربي الاشتراكي، حيث توجهنا إليه في هذا الحوار الذي ينشر عبر حلقات بعدد من الأسئلة وبدأنا هذه الحلقة بالسؤال: { المساحة التي وجدتموها في ظل حكم الرئيس البشير لم تجدوها في ظل حكم جعفر نميري ولا عبود، ألا تكون هذه محمدة سياسية تحسب إيجاباً للأول؟ - نعتقد أن المساحات التي نجدها في ظل النظام الديمقراطي هي أفضل بكثير من المساحات التي يتحكم فيها النظام الشمولي، وصحيح هناك الآن أفضلية نسبية بالنسبة للحركة السياسية مقارنة بالواقع الذي كان موجوداً في فترة نميري ولكن حتى هذه الأفضلية النسبية هي تنتقص أيضاً من حقوقنا وحرياتنا كحركة سياسة، فالحركة السياسية يجب أن لا تكون الحرية فيها بالنسبة لنا منحة وإنما هي حق، ووجود المعارضة بجانب وجود أحزاب حاكمة هي مسألة مهمة جداً لإحداث التوازن والرقابة في المجتمع ولإعطاء كامل الحرية للإنسان السوداني في أن ينتمي للتنظيم الذي يريده وهي أيضاً من مصلحة الأحزاب الحاكمة، لأنه عندما تكون هناك معارضة حقيقية فهي ستنبه الأحزاب الحاكمة إلى أخطائها في وقت مبكر، وسيكون مفيداً جداً لو تقبلت الأحزاب الحاكمة وجود الأحزاب الأخرى. { كل الأحزاب المنحدرة من توجهات عربية يؤخذ عليها أنها لم تسهم لا تنظيماتها ولا دولها في قضية دعم وحدة السودان، فلماذا هذا الموقف؟ - نحن ننفي هذا الاتهام لأن الواقع المعاش بالنسبة لنا كحركة سياسية في السودان ما أتاح لنا الفرصة في أن نقوم بدورنا فيما يتعلق بتعزيز خيار الوحدة إلا في حدود هامشية ضيقة جداً، وبالتالي كان مجرد المحاولة في أن تبذل أي مجهود فهذا كانت يضعك في دائرة الاتهام، ولنضرب مثلاً بمؤتمر جوبا فالحركة السياسية جميعها بما فيها الأحزاب القومية عندما ذهبت لمؤتمر جوبا لم تكن مشاركة لأجل مغازلة الحركة الشعبية أو تقيم علاقات مع الحركة الشعبية على حساب المؤتمر الوطني ولا على حساب الشمال، بقدر ما كانت مشاركة بهدف تعزيز خيار الوحدة من خلال طمأنة الجنوبيين بأن القوى السياسية في الشمال تؤكد أن الجنوب فعلاً وقعت عليه مظالم تاريخية، وأن هذه المظالم في ظل فهم جديد وصيغة جدية لإدارة الدولة السودانية يمكن أن تستمر الوحدة، فهذا المفهوم للأسف لم يفهم في سياقه الطبيعي. { الآن المعارضة توحدت في شخص الصادق المهدي بل وأوكلت له مهمة الحوار مع الحكومة حول المشاركة من عدمها له، ما رأيكم هنا؟ - المسألة هي لم تتوحد المعارضة في شخص الصادق المهدي، فالمعارضة توحدت حول مبدأ الحوار كمبدأ أساسي لحل الأزمات السودانية، فالكل قد توصل إلى أن الحوار الثنائي لا يفيد بل المفيد هو الحوار الجماعي الذي يشمل كافة الأحزاب السياسية فهو الذي يمكنه أن يقود إلى معالجات لمشاكلنا الموجودة، وبالتالي فعندما عززت أحزاب المعارضة توجه حزب الأمة نحو الحوار عززته من منطلق جماعي، ومن منطلق أن هذا أصلاً موقف تتبناه المعارضة وترى فيه أن الظرف الذي يمر به السودان الآن الحوار فيه أفضل من المعارضة. { هل اعتبرتم إذاً الصادق المهدي هو برادعي القوى السياسية السودانية؟ - هو ليس برادعي الأحزاب السودانية ولا البرادعي نفسه في مصر يمثل المعارضة والحركة الشعبية الموجودة الآن في الشارع المصري، ولكن وسط هذه الظروف قد تبرز بعض الشخصيات التي تحاول أن تستفيد من الزخم. { هناك استنتاج منطقي نوعاً ما يقول إنه قد يكون الغرب متعاطفاً مع المعارضة السودانية ولكن الشعب السوداني ليس لديه الثقة الكافية فيها باعتبار الخذلان الذي وجده منها بعد العام 1985 أي عندما قدم لها السلطة في طبق من ذهب كيف تنظرون لهذا الرأي؟ - الغرب الآن ليس متفاعلاً مع الحركة السياسية في الشمال، فالغرب الذي كان يتحدث عن الديمقراطية ذهب أخيراً في الرأي بأنها غير مهمة لأن المهم عنده هو كيفية الوصول إلى حق تقرير المصير، فالغرب كان كل تركيزه منصباً في فصل الجنوب عن الشمال بالرغم من حديثه الأول حول الحرص على وحدة السودان، ولكن أخيراً تبين للكل أنهم كانوا حريصين على الانفصال أكثر من حرصهم على الوحدة وهذا حسب ما يتماشى مع أجندتهم ومصالحهم الخاصة، فالغرب الآن أكثر انحياراً للسلطة منه للأحزاب السياسية المعارضة. { في هذا الخيال ووسط هذا الزخم وفي هذا الفلك كيف يمكننا أن نضع الأمور في نصابها؟ - أعتقد أن المطلوب الآن وبإلحاح أن توضع الأمور في نصابها لأن هناك مخاطر كبيرة جداً تحاصر السودان، فالشمال معرض لمخاطر حقيقية بعد الانفصال وهذه المخاطر تتمثل في التحديات الكبيرة التي يواجهها في كثير من المناطق، فنحن مازالت تلازمنا مشكلة دارفور وأبيي والحدود والديون الخارجية ومشكلة أصول الدولة وسوء توزيع التنمية. { هل ما سمعناه من مطالب منها إسناد منصب نائب للرئيس يمكن أن تحل مشكلة دارفور؟ - مسألة نائب وغيره هذه لن تحل مشكلة دارفور لأن مشكلة دارفور واضحة جداً وتكمن في أن هناك أسباباً موضوعية لهذه المشكلة والتعامل يجب أن ينصرف نحو معالجة هذه الأسباب الموضوعية وليس لمعالجات في النهاية هي شكلية. { هل المعارضة هي على قلب رجل واحد تجاه مشكلة دارفور؟ - المعارضة فيما يتعلق بالمعالجات للمطالب المطروحة من قبل حركات دارفور أو غيرها تقريباً هي قريبة من بعض، تلك المتعلقة بالنصيب في الثروة والسلطة وغيرها والاهتمام بالتنمية والخدمات بالنسبة للإقليم من تعويضات واستقرار للنازحين. { كيف تنظر للدعوة لتوسيع المشاركة حيث أن الحكومة تدعو للقاعدة العريضة فيما المعارضة ترى غير ذلك؟ - حقيقة هناك طرح، فالمعارضة ترى حكومة قومية انتقالية والسلطة تطرح الحكومة العريضة، والاختلاف الأساسي في هذه المسألة هو البرنامج الذي تقوم عليه الحكومة، فالمؤتمر يطرح مقترح الحكومة العريضة وهذا يعني مسألة شبيهة بحكومة الوحدة الوطنية الموجودة الآن، وبالتالي فالحكومة العريضة يخشى أن تكون شبيهة بحكومة الوحدة الوطنية القائمة الآن، فحكومة الوحدة الوطنية برنامجها المطبق الآن لا نستطيع أن نقول قد فشل بنسبة مائة بالمائة، ولكن فشل في محاور وأزمات أساسية بالنسبة للسودان، وبالتالي فعندما تريد عمل إصلاح لابد من أن تعيد النظر في هذا البرنامج، بمعنى أن نصل إلى برنامج يكون مقبولاً من غالبية الحركة السياسية، هذا البرنامج يتطلب تنازلات من هنا وهناك وصولاً للحد الأدنى الذي يمكن أن يلتقي فيه الجميع والذي يمهد الطريق للخروج من الأزمة، فأنا اعتقد أن الأرضية للتلاقي الآن موجودة بشرط أن يكون هناك استعداد لتقديم تنازلات وبشرط أن يكون هناك استعداد بأن الناس يصلون إلى تفاهمات تضع المصلحة الوطنية في المقدمة وليس المصالح الضيقة، سواء شخصية أم حزبية.