لا يستطيع أحد - موضوعياً- أن ينكر ما شهده السودان خلال أكثر من العشر سنوات الأخيرة، من قيام مشروعات تنموية واقتصادية وخدمية، ومن نتائج التوسع في التعليم العالي- مثلاً- استيعاب عمالة في مؤسسات القطاع الحكومي والقطاع الخاص، ولكن نظراً لأن التعليم العالي يفرز سنوياًأعداداً كبيرة من الخريجين، هذا من جهة، ومن جهة أخرى أن المشروعات التنموية لم تكن من الاتساع بحيث تستوعب كل الخريجين بمستوياتهم العلمية (البكلاريوس، والدبلومات) ومن هنا ظلّ من الطبيعي جداً أن تتفاقم أزمة بطالة الخريجين. مع ملاحظة مهمة أن غالب الخريجين هم من أبناء الفقراء، وهم لا ظهر لهم يسندهم في الحصول على الوظائف ذات الرواتب الدسمة في الشركات الكبرى. أقول ذلك كواحد من الآباء الذين يتابعون هذه القضية يومياً ويكتوون بنارها، وفي ذلك لا أعتقد أن شهادتي مجروحة لأن الحقيقة هي الحقيقة في كل الأحوال. فماذا فعلت الحكومة إزاء ذلك؟ أقدمت على إنفاذ مشروع التشغيل الذاتي للخريج بتمويل مصرفي صغير، وهناك من أفلح في إقامة مشروعه الإنتاجي أو الخدمي الصغير، وهناك من لم يحالفه النجاح ليبقى أسير دين لقرض واجب السداد لم يتمكن من الوفاء به للبنك المُقرِض. فما أصل البطالة المتفاقمة وسط الخريجين، ويتواصل تفاقمها مع كل عام؟ هي جزء من الأزمة القومية التي بدأت منذ مطلع استقلال السودان، وهي إهمال الحكومات المتعاقبة لقضية السودان الأولى بعد رفع علم استقلاله الوطني، وهي استقلال موارد السودان الطبيعية في إحداث تنمية اقتصادية، اجتماعية شاملة، وهذه القضية لا وجود لها في أدبيات معظم الأحزاب لاهتمامها الأكبر بلعبة الكراسي، المعارضة تُسقط الحكومة، وبعد فترة من حكم المعارضة تسقط هي الأخرى لتعود إلى الحكم الحكومة السابقة وهكذا دواليك.. وعادة ما يكون حصد تلك الحكومات صفراً في حال قضايا البلاد. وحتى ثورة أكتوبر الشعبية 1964م لم يرد في ميثاقها كلمة واحدة على التنمية وإنما فقط كلام عن الديمقراطية وحرية البحث العلمي، وكأن قضية الشهداء من أبناء الشعب الذين سالت دماؤهم أمام القصر الجمهوري لم تكن إلا من أجل عودة التعددية الحزبية وحرية البحث العلمي ولا أكثر!. ولقد تكرر كذلك نفس هذا المشهد بعد إسقاط الشارع - وفي مقدمته «الشماشة»- نظام مايو ومن أسوأ ما حدث على الصعيد الاقتصادي قيام حكومة الصادق المهدي بإغلاق ملف النفط السوداني، بدعوى إعادة النظر في الاتفاقيات النفطية التي عقدت إبان حكم مايو، قبل الشروع في استئناف أي اتصالات مع شركات أجنبية للاستثمار في السودان، ولكن حكومة الصادق المهدي المنتخبة ذهبت مع الريح بانقلاب 30 يونيو ولم تكن خطت خطوة واحدة - كما وعد الصادق المهدي- «بإعادة النظر» في الاتفاقيات النفطية على عهد مايو.. لماذا؟ لأن الجدل البرلماني العقيم كان سيّد الموقف بلا منازع، دستور إسلامي أم دستور علماني؟. واليوم على الرغم من العمل على إنفاذ المشروعات التنموية ومنها التوسع في صناعة النفط وتعدين الذهب وإلى آخره إلا أن بطالة الخريجين قد تُشكّل مهدداً أمنياً غير محسوب العواقب.. فما الحل؟ الحل لن يتم إلا في إطار الحل القومي لكل عوامل الأزمة القائمة عبر حوار وطني حقيقي وغير مسبوق. وهذا ما دعا إليه نائب رئيس الجمهورية علي عثمان محمد طه في مؤتمره الصحافي يوم الثلاثاء الماضي، ومما قاله أن يتم فتح حوار بين الحكومة والمعارضة والعمل بالدستور الحالي إلى حين تصفية تركة الدولة الواحدة، وإجازة دستور جديد، والترحيب بقيام المؤتمر الدستوري الذي دعت له المعارضة. وبلا شك هذا هو المطلوب ولكن الأهم أن يشارك في هذا الحوار ليس كل الاحزاب فقط وانما كذلك اهل التخصص العلمي من أساتذة الجامعات في كافة فروع المعرفة، في السياسة، والاقتصاد، والاجتماع، والبيئة، والثقافة، وتنبع أهمية ذلك من التغيرات الكبيرة التي شهدها هذا العصر في مختلف مناحي الحياة، ولا مكان لتجاهلها أو عدم الإلمام حتى بتفاصيلها. { في كلمات: هل تتحوّل الثورة الشعبية في مصر إلى ثورة اجتماعية وليس سياسية فقط، خاصة أن شعار العدالة الاجتماعية يرتفع من ألسن الناس العاديين وألسن كثير من المفكرين والمثقفين على السواء؟ وهل يلتقي ولو في الحد الأدنى أهل الاتجاه الإسلامي المستنير مع أهل اليسار المعتدل بقيادة د. رفعت السعيد المفكّر والمؤرّخ والأمين العام لحزب التجمع الذي يضم في عضويته ماركسيين وغير ماركسيين ومسلمين ومسيحيين؟ هذا الموضوع الأسبوعي كتبته صباح الأحد الماضي وسلمته في نفس اليوم للطبع ليظهر - كالعادة- اليوم الخميس.