ليلة من أسوأ ليالي طاغية قضاها متجولاً في أجواء حوض البحر الأبيض المتوسط بين مالطة والسعودية، بعد أن ضاقت عليه الأرض بما رحبت، فخرج من تونس وكم خلف من ورائه وأسرته الممتدة (.. كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (26) وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ (27) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آَخَرِينَ (28)) سورة الدخان. ولا الشعب التونسي الذي ازداد غضبه عليه وعلى أسرته، وقد مزق الطرابلسي شقيق زوجة بن علي إرباً إرباً بالسلاح الأبيض، ولعمري هذا هو قمة الغبن والغضب. فيا سبحان الله، فقد ضم قيد بن علي في سجل اللاجئين بين عشية وضحاها، وحتى الدولة العربية المستضافة قد استضافته بشروط تكبح من جماع طموحه السياسي حتى لا يشبع غريزة الطغيان مرة ثانية فيؤذي الشعب التونسي من على البعد. هكذا حال الدنيا يا بن علي، تعز المرء تارة وتذله تارة أخرى ولكن حكام العرب لا يتعظون، وما ثورتا الشعب السوداني عنهم ببعيدتين ولكن هل من مذكر؟! إن الله تبارك وتعالى أنشأنا من عدم وجعل لنا السمع والأبصار والأفئدة، وشحن هذه الأفئدة بعدة غرائز وعواطف وجعلها درجات متفاوتة، وأخبث هذه الغرائز هما غريزتا الجنس والطغيان وأول من مارس الطغيان بعد إبليس، أحد ابني آدم الذي لمس في نفس أخيه ضعفاً (فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ30) سورة المائدة. ومن بعده ندم فرعون ساعة الغرق، فكان ناتج الطغيان كله ندما على ندم إلى ندم بن علي، ويستمر المسلسل بإذن الله ما لم يكفوا عن الطغيان. إن ابن آدم قد قتل أخاه وندم على قتله لسبب لم يكن المقتول له ذنب فيه غير أنه تقي، وكل ما في الأمر أنهما تقربا لربهما بقربان فتقبل من المقتول ولم يتقتل من القاتل، فحرك هذا غريزة الحسد عند القاتل، فقتل أخاه، ولم يكن للمقتول يد في أمر الله ولكن الحسد والطغيان لعبا هذا الدور الإجرامي ولا يرقي الأمر إلى إزهاق نفس مكرمة عند الله، وتغلبت الغزيزتان على الجاني وساعده في ذلك ضعف المجنى عليه، وقوة الغريزتين حتى أن القاتل لم يراع أن المقتول شقيقه!! ومن هنا صار الطغيان إرثاً لبني آدم يتوارثونه كابراً عن كابر وعلى مر القرون على مدى تاريخ البشرية الطويل حتى بالغ بعضهم في الطغيان كالنمرود بن كنعان الذي نصب نفسه نداً لله وأعتقد أنه مثل الرب يحيي ويميت وحاجَّ سيدنا إبراهيم في ذلك، وحاول سيدنا إبراهيم أن يثنيه عن ذلك طالباً منه أن لا يكون نداً لله فإنه يحيي ويميت فرد عليه بقوله( أَنَا أُحْيي وَأُميتُ) واتخذ أمام سيدنا إبراهيم خطوة أكثر إيجابية بأن أحضر شخصين قتل أحدهما وأطلق الثاني. ولكن أبا الدعاة الذي لقنه الله الحجة تحداه بخلق من مخلوقات الله وهو الشمس، فقال له ( فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258) سورة البقرة. فانهار وانهارت معه حجته الباطلة، فكان هذا نوعا من الطغيان. وأما النوع الآخر فلم يمارسه أي مخلوق من قبل عدا فرعون مصر الذي أدعى الألوهية في زمانه طغياناً وكفراً وبالغ في سلوكه المشين لبني البشر، وقال لقومه الذين استخفهم فأطاعوه:« مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي». فهذا موقف لم يسبق عليه أحد من قبل ولا إبليس الذي طغى وعصى ربه وأقسم بعزة الله معترفاً بأنه مخلوق. هذا وإن كثيراً من الأنبياء والرسل قد أعطاهم الله الحكم والنبوة ولم يجرؤ أحد منهم على الطغيان على الله أو العباد بأي صورة من الصور التي لا يقبلها الله سبحانه وتعالى، وهذا هو الإخلاص في الدين والذي يرضاه رب العزة. فبالامس القريب انتفض الشعب التونسي القريب منا عقيدة ولحماً ودماً ولغة وثقافة، فجعل من الطاغية بن علي يفر بجلده وبذلك انهد ركن من أركان الطغيان في بلاد العرب والمسلمين، ترك من ورائه قصرا منيفا إلى ملجأ وقضى ليله كليلة (الأرمد) يتجول في جو السماء لم يجد أرضاً تقله إلا السعودية لكن بشروط تجعله يعيش فيها عيشة الأنعام (أكل وشرب ومعاشرة ونوم) ولكنه ليس نوم قرير العين أو قل هو كالطائر المحبوس في قفص من ذهب، ولا طائل من ذهبه إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً. وهنا أذكر جميع حكامنا بهذه الآية الكريمة من كتاب الله:(قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26)) سورة آل عمران، فهذه آية صريحة وواضحة وضوح الشمس في رابعة النهار وهي ذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد وهي عبرة لكل حكام وملوك وأمراء ورؤساء الشعوب العربية والإسلامية الذين يحكمون الخلق بأنظمة فاسدة وأجهزة أمنية قمعية التي يكون على رؤوسها أسوأ الرجال، وهم غلاظ شداد لا يعصون ما يأمر به رؤساهم قتلاً أو تعذيباً ويفعلون ما يؤمرون وهم من نوعية من ختم الله على سمعهم وأبصارهم ونسوا حظاً مما ذكروا به من أخبار الطغاة بالقرآن الكريم من لدن ابني آدم وإلى زماننا هذا. فما أكثر الحكام الطغاة بالمنطقة العربية الإسلامية؟ ومن غفلتهم أنهم يعتقدون أن الأجهزة الأمنية القمعية وأعمال الاستخبارات تمكنهم من البقاء كحكام مدى الحياة حتى أن بعضهم قد بدأ يورث أبناءهم الحكم، وقد تحقق ذلك في دولة وأخرى في الطريق وهلمجرا. فمهما طال عهد الطغيان فلا يستمر أبد الدهر ولابد من يوم كيوم عبود ويوم نميري وما يوم بن علي عنا ببعيد. فيا حكام العالم العربي الإسلامي استقوا العبر من القرآن الكريم ومن حياتكم السياسية لما يحدث لكم وإخوانكم وجيرانكم ممن يعتمدون على الأجهزة القمعية بزبانية تعرض بعض المعارضين للأنظمة إلى سوء العذاب فلا محالة الحساب آت وما يكذب به إلا كل معتد أثيم، فكيف الخلاص لمن يعرضون غيرهم للعذاب والتنكيل من أجل الحكم وحطام الدنيا؟! هذا وأن اسوأ ما في هؤلاء الطغاة من هم يصادقون من هم أطغى منهم ويتخذون منهم أولياء لاعتقادهم أنهم أقوياء، وهم مخدوعون فيهم ونسوا أن القوة لله جميعاً ويعتمدون عليهم حتى إذا ما قضى الله أجل حكمٍ ما، وأراد نزعه من طاغية، نزعه في أقل من لمح البصر وهو أقرب، ويولي الطاغية وجهه صوب من يعتقد أنه أطغى منه ويحميه ومن قبل كان صديقاً حميماً له، حتى إذا ما لجأ إليه يتبرأ منه كتبرؤ فرنسا من زين، وما ساركوزي إلا من شياطين الإنس، مثله (كمثل الشيطان)إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (16).فَكَانَ عَاقِبَتُهَا أَنَّهُمَا فِي النَّار ِخَالِدَيْنَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمين(17) سورة الممتحنة، هكذا كان ساركوزي لزين بن علي، وأن فرنسا كانت ظهيرة لحكومة زين وطغيانه على شعب تونس كما وأنها ظهيرة لكل طاغية في بلاد المسلمين بالشرق الأوسط. إن كافة شعوب المنطقة العربية الإسلامية ليست بأحسن حالا من شعب تونس في أنظمتهم الحاكمة، وقد يكون هنالك من هم أسوأ حالاً من تونس، ضاقت بهم الأحوال.. السياسية والمعيشية معاً، من أفعال حكامهم الطغاة ولكن أجل الله لفترات حكم الطغاة لم يحن وقته، فإذا تم الأجل فسوف ينزع الله الملك منهم، فلا راد لأمر الله ولو تعاظم الطغاة وتعاونوا مع ضعاف النفوس من الذين يركنون إلى مصالح الدنيا وقد نبذوا الآخرة وراء ظهورهم ولهم الويل مما يصنعون. فيا أجل الله في حكم الطغاة ادنُ ويا شعوب المنطقة العربية الإسلامية، اتقوا الله واصبروا على بلائكم وسوف تصفوا الليالي من بعد كدرتها، وكل دور إذا ما تم ينقلب كما قالها البارودي رحمه الله، هذا والله المستعان على ما يفعلون بالشعوب المسلمة.