وأركض تجاه أن أفارق رغبتي العارمة في الغيرة من عمل صحفي يستفز خاصيتي الجينيّة بالمشاركة فيه ولو حضوراً، تصادفني الرغبة في اتجاه هروبي منها، بالجلوس قمراً في المنزل أنثر ضوء الكلمات من على البعد، علَّني أنجو من هلعي، حينما أذهب راضية أبتاع الكلمات اليوميّة، فأجدني أمامها، الرغبة ذاتها، أشتريها باشتهاء المدمن ل (شمّة) بودرة صافية وبابتغاء الستر كي لا أفضحني بها أبرر بأنني أشتري بضاعتي، ثم بلهفة فتح الهدايا، أقلِّب الصفحات لأصل إليهم، الذين آمنوا بفعلهم وزادتهم الصحافة هدى كي يمشوا في درب الغواية المحببة، الزميل الأديب «عزمي عبد الرازق» والصوفي المتأدب وصاحب الكلم الطيب والأفكار الثاقبة والصاخبة كقطرات ماء على صخر «أبشر الماحي الصائم» - حيث أعترف أمام كلماته بغروري أنني أقف بجواره صحافةً.. وهو غرور يتسق كيف ما كان! - وكانت ثلاثة أيام وكنّا في حضرة من نروي بحديثه على اختلافه، نقف بلا سيقان ونرقص بلا طار، فهو السيد المثير - روحاً وفكراً وعطاء وتنقلات - «عبد الباسط سبدرات». ليس سدرة منتهى بالنسبة له أن يقبع بعيداً تحت الضوء يبعثر فكره بفوضى مرتَّبة - ومهذبة، يتنفس سراً - كما أذاع - كي لا يحسب له خطأ تاريخياً آخر، لا يمحى من ذاكرة الشجر والماء، إنما كنخلة عاشت كل فصول العمر بشموخها بالخطايا التي ارتكبتها - حينما آثرت ألا تلقي الثمر للناس - و لم يجرؤ أن يقطعها أحد! نخلة تعرف أنها عمة إنسان يهوى الخطيئة والتوبة بتواتر ويحترف النسيان موغلاً في الثأر من الذاكرة والظل. فاستظللت بظلهم ثلاثة أيام من هجير الأحاديث المفككة والأفكار المشتتة والمواضيع المترهلة من ثورة مصر وانفصال الجنوب وشحوم منبر السلام العادل - لا أعتقد أن السلام والعدل صفة تصلح له - فاسمحوا لي ما دمت مسؤولة عن كل كلمة في ما يتعلق بهذه المساحة، ليس أمام الله فقط والقراء إنما حتى أمام لجان محاسبة المجلس القومي للصحافة والمطبوعات، ولا سيما المحاكم الجنائية أيضاً، اسمحوا لي أن أستخدم هذا الحق في إبداء إعجابي المنتشر في روحي لمدة غير محددة بصلاحية للأسئلة الذكية في قسوتها وللأجوبة الظريفة في قوتها والمسرفة في فجور حقائقها. وبما أنه أوان الفصل في كل قول أشهد الكلمات أنني أحترم هذا الرجل كما ينبغي له الاحترام، وبمواقفه مهما اختلف عليها الجمعان - فهو رجل لها دائماً - وأُشهد هذه الورقات الشاحبات بأنني ذات يوم ما كنت أرافق «عزمي» وأستاذ «أبشر» في حواريّة «سبدرات» خلف زجاج نافذة الانتظار والقراءة المتقنة - وتسريب هواء الأسئلة المفترضة بلسانهم المبين - وأنني أدمنت هذا الحوار حدّ الاستنشاق والمضمضة به، وأنه يستقر في دمي الصحفي فصيلة نادرة لن أتبرع به - وقد فعلوا هم لنا - وأنني أشهد بأن مسافة سلّة السكين والذبح التي سأل عنها «أب قنفد» هي التي نعيشها الآن يا سيدي الأنيق - في الحضور والحديث - ليس مسافة انفصال فقط وبعد المساحة بين توزيع لحوم فاسدة وطرب عنصري منتمٍ إلى (أصحاب القبعات البيضاء) أو ثورات مستنسخة بغباء ومسترزقة بمفاوضات واتفاقيات واستفتاءات، إنما مسافة رؤيتنا نغرق كشعب كامل في رمل متحرك لا يمنحنا حتّى خاصية التنفس تحت الماء، الماء الذي غيَّر مجراه و صار شاهد إثبات لنفي تأريخنا!.. وأهديكم مجتمعين على قول حق أريد به فرز الواقع، وفي هذه الأيام من ذكرى ميلاد سيد الخلق والأخلاق، نبي الحب العظيم والسلام أجمعين، بعض قصيد من رجل جدير بالاحترام والترفق «هاشم صديق»، حيث أنه حضر معنا قائلا: العالم ينزف مطر الحزن يعاند طبل الرعد القاصف يجرفني الماء فلا أمسك ذرة خبزي لكني أمسك روحي مثل القابض لسع الجمر وأركض مرتجاً مثل السابح في بهو الخمر.. وأعود إلى سجني جلدي. تفشى الصدأ على المزلاج لا أعبأ أبداً.. فلتبق هذي الروح حبيسة هذا الحزن الفاني لا أعبأ أبداً فلديّ دفاتر في الأدراج لو طالعت سطور الحزن الراكض فيها لن أسأل عن شئ خارج سجني.. لن أحتاج!