{ ربما كان المشهد في كل البلدان العربية التي تحتدم فيها الثورات واضحاً وتستطيع أن تقرأ معالمه بسهولة ويسر. فالقصة كلها تتمحور حول جدلية الشعب والنظام، الشعب يريد إسقاط النظام، لكن القصة في اليمن «غير السعيد» هذه الأيام، موغلة في التعقيد والارتباك، وذلك لكون المشهد هناك يتشكل من عدة مكوّنات متقاطعة ومتنازعة، فالأزمة الأشهر والأخطر قد تلاشت الآن في تراجيديا المسرح السياسي المحتشد بالمتناقضات، وأعني الحرب المرهقة التي كانت تدور بين «جماعة الحوثيين» والحكومة اليمنية وحزبها الحاكم الذي يديره الجنرال علي عبد الله صالح منذ عقود من جهة أخرى، ثم تحوّل المشهد في مرحلة لاحقة إلى حرب غير متكافئة بين الحكومة اليمنية ذاتها وجماعة القاعدة، وتعتبر اليمن الشقيقة إحدى المنابع الممولة للقاعدة بالكوادر المقاتلة، فعلى الأقل أن زعيم تنظيم القاعدة الأشهر أسامة بن لادن ينحدر من جذور يمنية، ثم لم يلبث أن دخل المشهد اليمني «الحراك الجنوبي» الهائل الذي ينزع إلى «تقرير مصير الجنوب اليمني» بالانفصال عن الشمال، وحزب الإصلاح الذي يمثل تيّار الحركة الإسلامية، الحليف السابق للحزب الحاكم، قد خرج هو الآخر إلى الطرقات والساحات المحتشدة أصلاً بالجماهير، وتكتمل لوحة التعقيدات المتشابكة بالبنية التحتية القبلية الباهظة، فاليمن هي الدولة الوحيدة التي تمتلك فيها بعض القبائل الأسلحة الثقيلة والدبابات والمجنزرات، وضع أقرب لوجود حكومات مصغرة داخل الحكومة الكبيرة، ومن كان منكم بلا قبيلة فليرمها بحجر، والجنرال عبد الله صالح نفسه يرتكز على «أطروحة قبلية» في غياب منهج قومي للدولة. { وأصلاً المشهد اليمني كان محتدماً، وذلك قبل أن تندلق «ثورة الشابي التونسية»، إلى الطرقات والساحات العربية، إذا الشعب يوماً أراد الحياة، ليزداد المشهد تعقيداً واضطراباً واحتداماً واحتشاداً لدرجة الارتباك، فالقصة هناك لم تدُر كل فصولها حول أطروحة «الشعب يريد إسقاط النظام»، وعلى سبيل المثال، فإن القاعدة تريد إسقاط الدولة ومرجعياتها، والحراك الجنوبي الذي يقوده قدامى الشيوعيين والماركسيين «يريد الاستقلال» والانفصال وتشكيل «دويلة ماركسية» على سفح الجزيرة العربية، دويلة إن سمحت بقيامها المنطقة، فالمنطق الفكري قد لا يسمح بها؛ فالشيوعية التي لم يتخلَّ عنها الرفاق العرب قد انهارت في عقر ديار فلسفتها وعقيدتها، (وانكسر المِرِق واتشتَّت الرصاص.. وانهد الركن الكان بِلِم الناس) فبعض دويلات الاتحاد السوفيتي السابق قد ولّت وجهها شطر البيت الأبيض. { إذن، هنالك عدة مكونات وسيناريوهات تعرض مسرحياتها الدرامية المدهشة في وقت واحد على المسرح الكبير، لتصبح القصة أشبه ب(مَلَجة خضار) هايصة، هنا الليمون، هنا البرتقال، هنا البنضورة، جابوه بالطيارة وباعوه بالخسارة، الكل يعرض بضاعة مزجاة، «القبيلة، الإصلاح، الحراك، الحوثيين، المؤتمرين، القاعديين، والمتفرجين والمهربين». { ولما تستمع إلى الشيخ عبد المجيد الزنداني في تأملاته الكونية والتاريخية والإنسانية، تجتاحك مشاعر بأن هذا الرجل بإمكانه «حلحلة مشاكل الكرة الأرضية» ببحارها وحيتانها وشعوبها على «فنجان قهوة»، ولما تستدعي التاريخ المقدس تجد في ماضي الأمة اليمنية الإيمان والحكمة، لكن التعقيدات في هذا البلد العربي قد وصلت قمتها. { مؤسسة الملاذات، الجناح الفكري، ترى أن الأولوية في هذا البلد العربي يفترض أن تتمحور حول «حفظ كيان الدولة»، أن يخوض الشعب اليمني المخلص معركته الأولى ضد الانفصاليين الماركسيين، وحتى إذا ما ثبتت الدولة وكيانها، تكون المعركة بإسقاط النظام، ثم التواضع بين المكونات المتبقية على آلية لتداول السلطة والثورة، على أن هذا التنازع المتقاطع قد يضع اليمن في منظومة «الدول الفاشلة» المواجهة لدول القرن الأفريقي، والله أعلم. { مخرج: إذن، لا بُد من صنعاء الحكمة، وإن طال السفر.