في بلاد السودان أرض السماحة والقيم تبدلت حال بعض بنيه ودخل بينهم الغرب يوغر صدور الإخوة، ينفخ سحره فيفرق بين الرجل وامرأته وبين الابن وأبيه والأخ وأخيه.. ويسعى بالنميمة والقطيعة، وسمع له خفاف العقول، ونسوا أنه من باع جدودهم في سوق النخاسة.. نسوا أنه من استعبد جدودهم بمناجم أوربا.. سوّل لهم شيطان أوربا فنسوا أنه اللص الاكبر والطاغية الاكبر.. ارتدى ثوب الواعظ.. ارتدى ثوب الطبيب والمنقذ والحكيم.. وهو المرابي الجشع المستعمر المستبد، فسالت دماء وجراحات.. وفتح الغربي الثعلب العجوز باراته وأنديته ليشتري أمة جنوب السودان بزجاجة ونبيذ.. ليشتري أمة السودان بلذة آثمة.. ليشتري أمة أفريقيا بتبغ مأفون مريض. يُروى في واحدة من الحكايا الشعبية السودانية أن حاسداً يأكله الحسد ويبغض شخصاً بغضاً شديداً، وأن الناس لما علموا بحسده وغله لأخيه اخبروه بأنهم عازمون على معاقبة صاحبه، بشرط أنه إذا قبل أن يوقعوا به ضعف ما يقع على نده.. فقال لهم في فرح: إذا قطعتم يدي هل تقطعون يده؟ قالوا: لا، ولكن إذا قطعنا يديك الاثنتين نقطع له يداًً واحدة.. فقال اذا افقأوا عيني الاثنتين حتى تقضوا على عينه تماماً. وبجنوبالوادي.. أمّة جاءت حافية تمشي حاسرة الرأس الحليق حداداً وحزناً.. والدمع والدم على المحاجر والجفون وأطراف الثوب الحرير.. غارقة في البؤس، تتنفس ألماً وتزفر أنيناً ومرضاً.. لم تختََر العمى وفقد العيون والبصر.. لم تختَر الفراق.. لم تختَر السفر والترحال.. وإنما الجهل اختار.. إنما الحقد اختار.. إنما الحسد اختار.. إنه باقان وخنجره من اقتلع عينيها.. وبعدها رجع الى نفسه (باقان) ومكث مكذباً بالبعث والحساب. بكى كثيراً باقان وغرق في ظلامه وظلمه وانزوى بعيداً عن صراخها يودع عينيه.. جلس باقان بعيداً عنها وانتفض شيطاناً يفقأ عينيه الاثنتين راجياً فقء عين الشمال حسداً وظلماً.. نخر باقان جفنه، الرجل الذي أعماه الحسد والحقد.. ونخر عيني اخته ومحاجرها.. (بقرها) بخنجره المسموم.. بحقده أطفأ باقان نور البصر وعرج على البصيرة، يعمي القلوب بدعاوى وأباطيل: الشمال.. الغول.. الشمال.. السوط.. جلس أمام أكوام الفضلات وحثالة كأسه ودخان الغليون والتبغ (الكتكت) البغيض يحدث نفسه والشيطان يحدثه ويسول له.. ينسج الحكايا والأكاذيب والعقل بين التخدير والتغييب.. جلس بوم الشؤم يعالج جراحات مرضه الغريب سرطان الأنانية.. يصرعه كابوس الجبن وصدره مكتوم مأزوم يئن من كثرة ما عبأه سموماً وأحقاداً، ينوء بحمل الخطايا وصور الضحايا.. فهل يجيب الشرير المدلل الغرير.. هل يسمح البوم بإجراء استطلاع يمسح الدعاوى والتضليل.. هل كان نصف أهل الجنوب يعرفون معنى حق تقرير المصير! هل يعرفون معنى الوحدة؟ يا ساجياً في اللهو والمجون.. يا مغيباً في أحقاده وخطرفات السكر والعقل المعطل والجسد المثقل بالدهون.. نما بدنك كبيراً وزوى عقلك كثيراً وثملت وثملت حقداً وغلاً وأكلت.. وأكلت تملأ البطن كثيراً وتملأ الصدر زفيراً ولا تترك مجالاً للحب والوفاء والتعايش والتصالح والرأي الآخر.. لا مكان عندك إلا لنفسك.. لا تفكير إلا في ذاتك وأمراضك.. لا مكان في بيتك إلا للنبيذ وحثالة الكؤوس.. لا تعطي شيئاً لأحد حتى البول لو استطعت لحبسته.. لا تعرف أهلك ولا جيرانك لأنك تائه غارق في ذاتيتك.. تصفع الأعراف الإنسانية.. تأكل مال الضعيف وتنام من غير ضمير وتأنيب.. لك السيف والنار.. لك الحجر والسجن والأغلال.. لك الويل والثبور.. لك الجفاء والعقوق.. هذه الأرض التي تملأها ظلماً وجوراً سيأتي يوماً رجال يملأونها عدلاً وأمناً.. هذه السطور التي سودتها غلاً وجريرة ستبيّضها أجيال الغد الطاهرة المجاهدة.. آلاء الخضرة والغيث بالجنوب ستكون فياً ورياً للصالحين لأنهم هم ورثة الأرض.. الظلم دولته قصيرة.. والطواغيت لا ينعمون براحة ولا نوم.. والسارق والقاتل لا تفارقه أصوات وصور الضحايا.. ستقضي بقية أيامك تخاف من ظلك.. تخاف من انتقام ابن القتيل.. تخاف من صحوة أهل الجنوب.. تخاف من بطلان سحرك وخوار عجلك.. تخاف من عرى وعدك الزيف.. تخاف من يوم الحساب.. تشق أمة السودان.. تبتغى الفتنة وتنفخ النار.. تصب الزيت والفتات، تبني سوراً بين أبناء العمومة والجيران.. تقسم الأسر نصفين.. تشق الأخدود وتوقد النار.. ستغرق في حفرتك ونهر حقدك.. سيقتلك السم وأنت صانعه. لست رجل حرب فيرجى نزالك وثباتك.. ولست وقورا يجدي حوارك.. ما أنت إلا فحل كباش تقود القطيع إلى الهلاك والمفازات والصحارى.. دليل حائر سحره الشيطان وقال له إني هاد لك.. ولما تفرقت أمامه الدروب قال له الشيطان فجاج السودان واسعة فانظر أي طريق تختار.. وولى من عنده وقال إني أرى ما لا ترى.. إنى أخاف أمة السودان. رجل يخوض بأهله في الوهاد والرمال والأوحال.. أفواههم فاغرة وبطونهم خاوية وعقبهم غير مأمون.. يقدمون على انتحار جماعي من غير طقوس.. وباك ومن غير عزاء.. وشاهد حتفك بيدك.. والماء من فوقك ومن أسفل منك.. ولا جبل رجاف عاصم لك.. ولا جرار ينزلك الى بر آمن قبل سويعات فرعون الجد.. الطاغوت العريان.