ربما كان توقيت الزيارة نفسه امتحانً للوزارة، امتحاناً فى مقدرتها على توظيف الزمن لصالح مشروعها الضخم المسمى تنمية الموارد البشرية، أو ربما كان امتحاناً لها فى كيفية إدارة الوقت. الثالثة صباحاً هي موعد انطلاق «بص» فريق الوزارة بأكمله الذي سيقطع ظلمة ليل الخرطوم ليقابل الشمس عند شروقها هناك، حيث اعتادت أن تشرق، من كسلا و القضارف، و ماهي القضارف، «مدينة من دفيس» إذا أجيز لنا استعارة توصيف الأديب على المك لمدينته التي هي من تراب، إذن هي القضارف بقشها وحديدها، اختارت لنفسها منذ الأزل هضبة تقربها الى السماء خمسة آلاف قدم فوق مستوى سطح البحر، و حجزت ديموغرافيتها من كل جنس ولون، حتى غدت مرآة لمن خلق الله في الارض السودانية، فكان حري بعائشة الفلاتية أن تغنيها يا الأخضر البنودي.. فارقت ليك بلودي.. يا فالقني لمني في مريودي.. كطرف من اهزوجتها «سمسم القضارف» على مذاهب أهلها الأولين. هذا قبل أن تنحرف بها أصوات المغنيين كما هو الحال اليوم، فتجرف معها القضارف نفسها، وتصبح كغيرها من مدن الله الميتة التى دون بلاغها ضد مجهول، فكانت الأحق بالتنمية قبل غيرها من الولايات فى نظر فريق الوزارة الذي قوامه أكثر من ثلاثين شخصاً، بدوا على عجلة من أمرهم فى إصلاح حال جميع الأعطاب التي أصابت البلاد. جلس وزير الوزارة كمال عبد الطيف إلى جانب والي ولاية القضارف كرم الله عباس يراقب بعينين بدا عليهما أثر النعاس، ثلة من الشباب وهم يتجولون بأوراق يحملونها في أيديهم، يتمعنون فيها كلما سنحت فرصة، بينما انشغل بعض اخر بإجراء محادثات تلفونية من هواتفهم النقالة، تمهيداً لبداية مخاطبة أعدت لها قاعة فسيحة، فى مبنى فسيح هو أمانة حكومة ولاية القضارف، كان كل واحد من ذلكم الشباب يشير بانشغاله على نفسه بأنه يؤدي عملاً مهماً، يقول أحدهم «لقد فاجأنا عبد اللطيف بزيارته المبكرة لكنا سنجتهد في أن نظهر بصورة طيبة أمامه»، ثم يبتسم أمام الصحافيين رافعاً سبابته اليمنى بالتكبير. قال كمال عبد اللطيف: « نحن أتينا هنا فى إطار مشروع التواصل مع الولايات، وقصدنا أن نؤسس لشراكة فاعلة لبناء القدرات وتطوير المؤسسات، وستكون زيارتنا هذه معنية فى المقام الاول بالوقوف على تدريب عناصر الخدمة المدنية، عبر مشروع تدريب العاملين، وسيكون نصيب ولاية القضارف نحو (2500) موظف وعامل». لا يختلف الكثيرون حول التدهور الذى أصاب الخدمة المدنية بالسودان، وسبق لوزير العمل السابق اللواء معاش السون منايا، تشكيل لجنة من المتخصصين لدراسة ومعالجة وضع الخدمة المدنية بالسودان، الأمر الذى يعتبره البعض اعترافاً من الحكومة بتدهور الخدمة، ويتهمون فيه الحزب الحاكم بالضلوع في هذا التدهور، بإبعاده للكفاءات والخبرات الإدارية السابقة، واعتماده على أصحاب الولاء السياسي، الذين يراهم المعارضون قد اعتمدوا في كل إجراءاتهم الإدارية على السلطة بعيداً عن القانون واللائحة التي تنظم الخدمة المدنية العامة، ولا شك أن ولاية القضارف ذات نصيب وافر من هذا التدهور، ووصفها على لسان مسؤول فى وزارة تنمية الموارد البشرية: «الوضع ليس جميلاً إنها تتدحرج إلى الخلف»..!! يقول الوالي كرم الله: «نحن حقيقة افتقدنا التدريب لفترة طويلة،لأسباب كثيرة، لذلك سنتعهد بجميع التوصيات التى خرجت بها زيارة وزارة التنمية البشرية، والتي ضمنت فى مذكرات تفاهم وقعت بين الطرفين، والتي تشمل تفعيل قوانين للإصلاح الإداري، وقيام فرع لأكاديمية السودان للعلوم الادارية وغيرها من التوصيات» . يضيف عبد اللطيف بعداً آخر يراه مهماً فى زيارته للقضارف، يتعلق بسعي وزارته لتنفيذ مشروع الدولة فى تشغيل الخريجين، منطلقاً على حد قوله من مواقف إنسانية و اجتماعية واقتصادية، ويسعى لادخالهم فى عجلة الإنتاج عبر تمويل من القطاع المصرفي، مما يشجعهم على العمل الحر ويقطع أمامهم طريق الاتكال على التوظيف الحكومي فقط، غير أن استطلاعاً للرأي فى وسط الخريجين أجرته (الأهرام اليوم) مع بعض منهم كانوا قد اتخذوا مجلسهم في قهوة «موسى» جوار صيدلية الجماهير بالقضارف « وقهوة أم الحفر» بسوق مدينة كسلا، كشف عن عدم ثقتهم في ما يطرح من مشروعات استثمارية، ويرون أنها تطرح بغير شفافية، ولا تخضع لمعايير واضحة، يقول الخريج محمد عثمان إنه قدم لتمويل مشروع منذ العام 2008م، لكن لم ياته رد حتى الآن، فيما يقول زميل لمحمد إن المشروعات و الوظائف الحكومية تخضعان للمحاباة والولاء السياسى، وأضاف هذه ليست المرة الأولى التي يعلن فيها عن مشروعات للخريجين، لكن جميعها ينتهى أمرها إلى اللاشيء . وفى هذا الصدد يقول مسئول شئون الولايات بالوزارة المبروك فضل المولى (للاهرام اليوم): « لقد خصصنا لمشروات الخريجين مبلغ (200) مليار دولار عبر محفظة أمان مدتها (3) سنوات تمولها المصارف، وديوان الزكاة، ومؤسسات اقتصادية تابعة للقطاع الخاص و العام، وستنفذ جميع المشروعات فى أعقاب اكتمال حصر الخريجين و تدريبهم على المشروعات التي يودون الاستثمار فيها، مضيفاً أن إدارته لن تميز بين الخريجين على أساس سياسي أو قبلي، إنما تعتمد فقط معيار أقدمية الخريج وقال إن أسبقية التمويل ستكون لخريجي العام 1995 وما يليه تصاعدياً. حينما أنهى فريق الوزارة عمله بالقضارف، كان عليه أن ينفذ الشق الثاني من جدول أعماله الذي يتضمن زيارة ولاية كسلا، وفيها قال وزير الدولة بالتنمية البشرية السماني الوسيلة الذى قاد الفريق، إنه جاء لكسلا ليمسك بالمستحيل من تلابيبه، ويخلق مع حكومتها إنساناً مؤمناً ذا عزيمة، وأبدى حسرته لوجود كثير من الإشكالات سماها المقعدات الاجتماعية وقال «لايستوي عقلاً أن يكون لدينا (40) ألف خريج زراعي فى بلد كالسودان»