{ مدخل: احتاج إلى أن أزور الشاعر أحمد مطر مرتين خلال أسبوع واحد: «قمرٌ على وجهِ المياه سكونُه في الاضطراب وبُعدُه في الاقتراب غَيبٌ يمدُّ حضورَه وسطَ الغياب وطنٌ يلمُّ شَتاتَه في الاغتراب.. روحٌ مجنحةٌ بأعماقِ التراب وهي الحضارةُ كلُّها تَنسلُّ من رَحمِ الخَراب». { والقصة بطلها الحزب الشيوعي السوداني، أعرق الأحزاب الشيوعية في المنطقة وأضعفها حيلة في المنطق، حزب «سكونه في الاضطراب»، وأنا لا أعرف موسماً لا يسعى فيه الرفاق إلى زراعة ثورة، وهي زراعة في معظم الأحيان لا يحسنون توقيتها وبذورها المحسنة ومناخاتها، كمن يحاول عبثاً زراعة التفاح في ميدان أبو جنزير، فالتفاح لا ينبت هنا ولا ينبغي له، لهذا انقلب القوم وليس في أيديهم «فاكهة الدوم» فضلاً عن التفاح، هذا إذا رفعنا من معنويات الدوم إلى مصاف الفاكهة، كما لو أن إحدى لوحات أحمد مطر قد فصلت على حادثة ميدان أبو جنزير، وهي قوله «غيبٌ يمدُّ حضورَه وسط الغياب»، فالحزب الشيوعي الذي وصل إلى حكم السودان في مطلع سبعينات القرن المنصرم بأناشيد ثورية تهتز لها الأرض: «أنت يا مايو الخلاص.. يا جداراً من رصاص»، ذات الحزب العريق قد وصل إلى ميدان أبو جنزير منذ أيام بمائة رجل أو يزيدون، يتقدمهم الأستاذ محمد إبراهيم نقد، رجل يذهب إلى الثمانين وميدان أبو جنزير في وقت واحد، فالشيوعيون كانت تسعفهم الحصافة ولا يخذلهم الذكاء وترفدهم الجماهير، فلطالما احتفيت هنا كثيراً بمقولة القائد الشيوعي التاريخي الصيني «ماو»، الذي أطلق عبارته السحرية تلك في أربعينات القرن المنصرم: «الثورات يخطط لها الأذكياء وينفذها الأبطال ويستغلها الجبناء». خرج الشيوعيون أمس الأول ولم يجدوا إلا «بقايا كرتونة» ليكتبوا عليها بعض التذكارات، كما كنا نفعل ذلك في القرية على عهد الثانويات، لما نجد أهل البيت الذي قصدناه غير موجودين نكتب على البوابة «حضرنا ولم نجدكم»، وربما كان الفرق في أننا نكتبها «بقطعة فحم» والأستاذ نقد قد كتبها بقلم «النيوبول» أو قلم «البك» لا أدري، غير أن المفارقة لا تكمن في القلم الذي كُتبت به، ولكنها تكمن في اللحظة التاريخية التي هُدم فيها هذا الأدب، وهل يسعفنا قريبنا ابن نقزو الجويد مجذوب أونسة: «شلنا شوقنا رجعنا بيه وما ندمنا على سلامك»، كما لو أني بالمؤتمر الوطني في المقابل يتغنى بالشطرة الأخرى من القصيدة ذاتها: «ما نحنا هناك بالعزاز.. بنطلع فوق الحراز» الرفاق على حين غزوة خائبة هم من صنعوا فرصة ذهبية للآخرين كي «يعرضوا». ويستدعوا أناشيدهم الثورية، فمن كان منكم بلا ثورة فليرمها بحجر، «والنار ولَّعت وبكفي بطفيها». والأستاذ فاروق أبو عيسى نقيب المحامين العرب السابق قال إنهم سيؤجلون المحاولة الثانية بعض الوقت، وكما قال لنا الأستاذ سبدرات في ذات لقاء وسيم: «هنالك فرقة بين سلَّة السكين والضبح»، لكن شاعرنا عكير الدامر هو من قال: «ممعوط ما بطير.. مثلاً قديم دارسنو وسيف الباله ما بقطع قدر ما تسنُّو» { الرأي عندي أن يهتدي إخواننا الرفاق إلى إدارة حوار داخلي مع أنفسهم؛ فمنذ انهيار النظرية الشيوعية في عقر دارها «وتشتت دويلات» الاتحاد السوفيتي، التي أعالجها دائماً بتراثية: «انكسر المرق واتشتّت الرصاص.. وانهدّ الركن الكان بلم الناس»، منذ ذلك الوقت الذي أجرت فيه النظرية الأم بعض المراجعات والتعديلات، لم يتواضع الرفاق السودانيون في المقابل على إجراء أي تحسينات ومن أي نوع، ولا زالت أجندتهم تتمحور حول «الثأرات التاريخية» والركوب على متن الغبائن والاضطرابات و... و... { مخرج: السيد عبد الواحد صاحب «تحرير السودان الدارفورية» شيوعي ملتزم.. ياسر عرمان صاحب تحرير السودان الجنوبية الشمالية شيوعي سابق ولاحق.. فاروق أبو عيسى شيوعي.. فضلاً عن الكوادر المزروعة وسط الأحزاب القديمة، وأحزاب اليسار الأخرى.. ثم الحزب الشيوعي.. «حزب يلم شتاته وسط الغياب».. وكل هؤلاء لا يملكون مشروعاً وطنياً للتنمية والإصلاح؛ إنما يمتلكون مشروعاً ثأرياً تخريبياً انتقامياً، وكما عبّر مطر: «وهي الحضارةُ كلها تنسلُّ من رحم الخراب».