{ كيف استقبلت الحكومة السودانية الاعتداء الإسرائيلي الأخير، وكيف بدت لها الأمور بعد تلك الغارة التي استهدفت سودانياً وقتلت اثنين على الطريق السريع بالقرب من مدينة بورتسودان؟ لتصل جملة اعتداءاتها على السودان إلى أربعة، ومن المؤكد أن إسرائيل لن تتورع عن تكرار مثل هذه الاعتداءات، فالسودان لايملك غير الجأر بالشكوى لمجلس الأمن - أفسد ميادين العدل على الإطلاق - أمام الآلة العسكرية الإسرائيلية الضخمة ومن ورائها أمريكا بكل جبروتها وصلفها وميلها الكامل للعدو الإسرائيلي. { ليس بمستغرب أن تحدث مثل هذه الاعتداءات، فهي تتكرر صباح مساء في غزة، وتكررت في العراق أيام صدام حسين، واستقبلتها سوريا والآن تحتضنها ليبيا من حلف النيتو، ويمكن أن تستقبلها أية دولة، ولكن المهم هو كيف نقرأ هذه الاعتداءات ونستجمع تفاصيل مهمة تجعلنا على الأقل نحصّن بلادنا من شرور لن تطالنا إن لم تجند إسرائيل عملاء لها ومن بني جلدتنا، وتبعث جواسيس وتقيم مؤسسات لها داخل بلادنا، تتستر خلف مشروعات اقتصادية أو منظمات طوعية أو أنشطة إعلامية، عبرها تنشط في جمع المعلومات وتأزيم الأطراف وصناعة بؤر الصراع. { يجب ألا ننظر إلى ما حدث باعتباره مجرد ضربات جوية استهدفت مجموعات تعمل في تجارة الأسلحة التي تعتقد إسرائيل أنها تهرب إلى قطاع غزة، وهذا اعتقاد فيه نظر باعتبار أن العملية الأولى التي استهدفت طابوراً من السيارات كانت تقل مجموعة من الأجانب من جنسيات إريترية وإثيوبية وصومالية ومعهم عناصر تعمل في تهريب البشر، ولم تكن معهم أسلحة بالمقدار والنوع الذي تتوهمه إسرائيل، فهي تجارة متواضعة تبذل حكومة السودان جهوداً مقدرة لمحاربتها، وكان يمكن لإسرائيل أن تكلف الولاياتالمتحدة بالضغط على الحكومة السودانية لحثها على بذل جهود أكبر ودعمها لمحاربة هذه الظاهرة، فالسودان له تجارب طيبة في تعاونه مع المجتمع الدولي في الكثير من الميادين، ولا أستبعد أن تكون إسرائيل قد استخدمت الولاياتالمتحدةالأمريكية في الضغط على السودان في قضايا أخرى. { وهنا لابد أن نتساءل: لماذا غلّبت إسرائيل خيار الضربات الجوية في مواجهة هذه القضية التي تشغلها وهي تعلم تماماً الحجم البسيط لهذه التجارة وضعف إمكانات معتاديها، وأنها لا تخرج من كونها تهريباً للبشر ليس إلا؟ لا سيما أن هذا النشاط المتواضع أمامه حواجز وعقبات، وإن صحّ اعتقاد إسرائيل بأن أسلحة فعلاً تهرب إلى قطاع غزة، فهناك أكثر من ألفي كيلومتر تقطعها هذه السيارات، وهناك دولة مصر بكل إمكانياتها وأجهزتها، وهناك حاجز (رفح)، والجدار الفولاذي، وكذلك هناك تنسيق يمكن أن يتم بين السودان ومصر إن كانت فعلاً هذه الظاهرة بهذا الحجم الذي تتوهمه إسرائيل. { بهذه الضربات تريد إسرائيل أن تقول إنها قريبة من السودان وجزء من قضاياه وأزماته، وهذه رسالة معنونة للأطراف بؤر الأزمات في السودان، وهي في ذات الوقت معنونة للداخل الإسرائيلي حتى يتقبل الخطط الإستراتيجية لإسرائيل تجاه السودان، لاسيما وأن النخبة الحاكمة في إسرائيل وبالذات العسكرية والإستخبارية انطلقت تروّج لإستراتيجيات لإسرائيل للسودان فيها نصيب، وقد كان ذلك جلياً في المحاضرة التي ألقاها (آفي ديختر) وزير الأمن الداخلي في 8 سبتمبر 2008م بمعهد أبحاث الأمن القومي الإسرائيلي، وقد قال الرجل كلاماً كثيراً عن السودان وهو يتحدث عن إستراتيجية بلاده في المنطقة، وبما أن المساحة لا تسع فإن شذرات مما قال الرجل نضعها أمام القارئ الكريم دون الخوض في التفاصيل . { قال وزير الأمن الإسرائيلي إن بلاده تدخلت في إنتاج وتصعيد أزمة دارفور، وقال إن إضعاف السودان ضرورة من ضرورات دعم وتعزيز الأمن القومي الإسرائيلي، وقال نحن من أوائل المبادرين بخطة للتدخل في دارفور في العام 2003م وقال يجب ألا يسمح لهذا البلد أن يصبح قوة مضافة إلى قوة الوطن العربي، وقال إن السودان بموارده ومساحته الشاسعة وعدد سكانه كان من الممكن أن يصبح دولة إقليمية قوية منافسة لمصر والعراق والسعودية. { سنعاود الغوص في هذه المنطقة حتى نصل لتشخيص دقيق وعميق لما يحدث ونربطه بما تتفوه به النخب الإسرائيلية وما نستنتجه من أفكار لنبني حصناً منيعاً أمام الخطر الإسرائيلي.. وأخيراً أهمس في كل أذن وطنية خالصة: المسألة أكبر مما نتصور.