ارتفع عدد المساجد بولاية الخرطوم إلى أربعة آلاف مسجد، وكنت منذ أسابيع أشهد افتتاح أحد المساجد بأم درمان، لما نهض الدكتور عبدالرحمن الخضر والي ولاية الخرطوم، معقباً على الخطبة، معلناً أنه في كل جمعة يفتتح مسجداً جديداً، فلا تكاد تمر عليه جمعة دون أن يدشن فيها مسجداً، وإذا نظرت عزيزي المصلي الآن حول مكان سكنك فستجد على أقل تقدير أن هناك من أربعة إلى ستة مساجد تتسور مربع سكنك وتتوسطه، حيث يتيح كل هذا الانتشار قائمة من الخطباء لتختار منهم بحر إرادتك الإمام الذي يخاطب أفكارك ويلبي أشواق مشروعك الفكري والديني. رأيت أن أن أصل بهذه الاستطرادات إلى أن هنالك حرية مطلقة في اختيار المساجد وخطبائها من قبل جمهور المصلين، كما ليس هناك جهة رسمية تتدخل في اختيار شكل وطريقة الخطبة، بحيث إن الإمام الخطيب لا يحتاج أن يذهب إلى وزارة الإرشاد ليأخذ إذناً بأنه في هذه الجمعة سيتحدث عن موضوع بعينه، وفي المقابل إن وزارة الإرشاد هي الأخرى لا ترسل خطبة مكتوبة إلى المساجد، كما يحدث في معظم اليلدان، حتى بعض المناشدات الشحيحة من وقت لآخر لائمة المساجد ليتحدثوا عن قضية بعينها، حتى هذه المناشدة غير ملزمة، إن شئت أخذت بها وإن شئت لم آخذ بها، ففي ظل هذه الحرية الدينية وظلالها يتنافس الخطباء في عرض أفكارهم ومعالجاتهم ورؤاهم على قارعة المنابر، وفي ذلك فليتافس المتنافسون، وكانت النتيجة أن الخطاب السلفي يكسب، لدرجة تجاوزت فيها المساجد السلفية رقم ألفين وخمسمائة مسجد من مجموع أربعة آلاف مسجد، وبينما هرمت (الأفكار التقليدية) من أجل هذه اللحظة التاريخية تقدم الخطاب السلفي لأنه يقدم ما لم يقدمه الآخرون، وللإسلاميين نصيب معتبر في تشكيل الرأي العام الفكري، بحيث إن كوادرهم وفرسانهم يمتطون عدداً مقدراً من المنابر، على الأقل أن كل المساجد (الخمسة نجوم)، إن جازت هذه التسمية، هي ما بين الشيخ الكاروري وعصام البشير وغيرهما من رموز الحركة الإسلامية، بينما هرم الخطاب التقليدي الذي كما لو أنه يخاطب أهل قرون سحيقة، والخطاب التقليدي برغم بؤسه وتراجعه هو أفضل ألف مرة ممن لا خطاب لهم، أعني إخواننا الرفاق، فهم لا يمتلكون مساجد ليطرحوا من خلالها مشروعهم الفكري، ليس لأن الحكومة تجردهم من هكذا حقوق، ولكن لأن فكرهم أصلاً ينهض على (مقاومة الدولة الدينية) التي تصنع وتتبلور في المساجد و... و... رأيت أن أقول إن الملايين الذين يفترض أن يخرجوا إلى الشوارع تلبية لدعوات الأساتذة نقد وعرمان وأبوعيسي، وذلك لصناعة الثورة السودانية، أسوة بالثورات التي من حولنا، هم في الغالب ممن يخضعون أسبوعياً (لخطبة مركزة) في مساجد الخرطوم، ومساجد الخرطوم كلها تكاد تقرأ عليهم أسبوعياً، وأحياناً يومياً في أوراد الصباح والمساء، قول الله تبارك وتعالى (إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون)، لهذا لم تخرج الخرطوم حتى يوم (التحالف الديمقراطي) هذا، فإذا رجعتم إلى الوراء ستدركون أن (الخطاب الديني) هو عصب معظم الثورات ورسم خارطة طريقها، فالخطاب السلفي صاحب الصوت الأعلى يقول في حلف (عرمان، نقد، أبو عيسي) ما لم يقله مالك في الخمر، والحركيون أصحاب تجربة تأريخية في دحض حجج اليسار، والخطاب الطائفي لا يحرك ساكناً و... و.... فالإسلاميون في السودان، بمختلف مدارسهم، يسيطرون على مفاصل الحياة ويرسمون معالمها، وهم عبر التاريخ والثورات من يخرجون الجماهير، فأزمة (الثورة السودانية) الافتراضية تكمن في أن أطروحاتها تخرج من (كهف التاريخ)، ما بين نظرية ماركسية سقطت في عقر دارها، وما بين قادة ثمانيين (هرمت أفكارهم) وانفضت الجماهير من حولهم. مخرج.. الثورة يصنعها الإسلاميون وتشكل ملامحها المساجد، ألم تروا كيف أن الثورات العربية تتخذ من الجمعة والمساجد يوماً للخروج ومركزاً للانطلاق.