حوار - فاطمة مبارك - بهرام عبد المنعم بعد انفصال الجنوب واجه شمال السودان جملة من الملفات السياسية المعقدة، برز في مقدمتها موضوع حكم الشمال في المرحلة المقبلة، حيث تباينت وجهات النظر بين الناس وفقاً لتباين الخيارات الفكرية والسياسية، الأمر الذي جعل موضوع الحكم بالشريعة محل جذب وشد، في الناحية الأخرى ظل ملف الحوار مع القوى السياسية ساكناً، عدا التصريحات المتضاربة التي تصدر من هنا وهناك، ولا يدري أحد ما يدور داخل دهاليز القاعات المغلقة، وما يمكن أن تصل إليه الأطراف، سواء التي ابتدرت الحوار مع الحزب الحاكم، أو التي ظلت مبتعدة عن موائده، لا سيما أن ملامح المرحلة السياسية المقبلة تتوقف على ما يتمخض من هذا الحراك. )الأهرام اليوم( حملت هذه الملفات وجلست مع نائب رئيس المؤتمر الوطني بولاية الخرطوم؛ د. مندور المهدي، الذي يعتبر من الشخصيات الممسكة في حزبها بتفاصيل القضايا المطروحة، ومن بعد د. مندور عرف بوضوح العبارة، حيث يحدثك عن أخطر الملفات دون أن يستدعي مفردات قاموس بعض السياسيين الذين برعوا في تأسيس منهج “ضبابية” المواقف، بهذه الخلفية بدأنا الحوار مع هذا الرجل فماذا قال؟ { فيمَ تفكرون الآن للقضاء على الفساد؟ - نحن نؤكد أننا سنتعامل مع هذه القضية بحسم، سواء أعلنا ذلك أو لم نعلن، فنحن ظللنا في جهد مستمر ومتصل لمقاومة الفساد وكبحه وتحطيمه داخل مؤسساتنا وأجهزة الدولة المختلفة، وما وقع وعلمنا به اتخذنا إجراءات صارمة وقوية تجاهه، بل كنا نتعامل أحياناً مع الشبهات على مستوى المؤتمر الوطني، كنا إذا دارت شبهة داخل أجهزة الدولة نتخذ إجراءاتنا داخل الحزب للتأكد، وإذا تأكدنا تعاملنا بالطريقة المناسبة، لكن أقول إن منهج الدين بصورة عامة ضد إشاعة الفاحشة كما يقول الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آَمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ). فليس من منهجنا أن تشيع الفاحشة بين الناس أو التشفّي كما يريد بعض الناس أن يكون ذلك. { لكن كيف ستحاربون هذه الظاهرة؟ - نحن لا نتصالح أبداً مع الفساد، الآن على مستوى المجلس الوطني هناك لجنة كُونت ودرست هذه القضايا بتمعن. { أي قضايا؟ - درست قضايا الشركات بصورة عامة، وتوصلت إلى نتائج، وقالت إن الفساد داخل هذه المؤسسات حجمه 9,% أي أقل من واحد في المائة، هذا حصر لحالات الفساد داخل مؤسسات الدولة، وعندما نظرت اللجنة في هذه القضايا وحدث تحرك، انخفضت النسبة إلى 7,% وعندما بدأ تجميع الأموال وصلت إلى 3,% ولا أحسب أن هناك دولة حجم المخالفات فيها 3,% من الإجمالي. { كيف نظرتم إلى هذه النسب؟ - هذه نسب ضعيفة جداً، وتشير إلى أن حماية المجتمع قوية ومؤثرة، ولحسن الحظ أيضاً أن غالب هذا الفساد ليس هيكلياً أو مؤسسياً. { إذن ما طبيعة هذا الفساد الذي حدث؟ - سلوك فردي لبعض الأفراد داخل منظومة الدولة بصورة عامة، أنتم تسمعون عن فساد بمليارات الجنيهات وتهريب الأموال، لكن أقول لا نشهد حجما كبيرا للفساد داخل السودان.. قبل أيام اطلعت على ملف للفساد في الإنترنت، وعندما نظرت نظرة أولية للمعلومات، تكاد تكون كل القضايا المطروحة كذباً. { ما دليلك على عدم صحتها؟ - أنا، واحد من الناس، قالوا إنني شريك في «السلام روتانا» مع عبد العزيز وآخر اسمه عبد الباسط. { رغم ذلك، هذا لا ينفي وجود حالات للفساد مثلما أعلنت بعض الجهات؟ - أنا قلت إن هناك حالات فردية موجودة لموظفين اختلسوا أموالاً، وهذا أمر حدوثه طبيعي، ولا أدري أين الغرابة في أن تكون هناك حالات، ففي عهد الرسول صلى الله عليه وسلم حدثت حالات سرقة وزنا، ولا أعتقد أن هناك مجتمعاً مثالياً يمكن أن نقول لا يوجد فيه فساد، هناك فساد وسيظل إلى يوم الدين. { وبالمقابل لا بد أن يكون هناك حساب؟ - نعم، القضية الأساسية هي دور الناس كدولة في استنكار هذه القضية والتعاون لمكافحتها، فهل نحن كدولة لا نريد كشف هذه الحالات ومعالجتها؟ الإجابة: نحن نريد كشفها والقضاء عليها وضربها بقوة. { الحديث بصورة عامة عن محاربة الظاهرة لا يكفي، الناس ينتظرون الإعلان عن هذه الحالات، فهل تنوون كشفها؟ - هذه يعتمد على القضية، إذا كانت هناك قضية تستحق التشهير ستُشهر، وإذا كانت لا تستحق لن تشهر، فليس من المصلحة أن أقول «فلان حرامي»، لكن من المصلحة أن أرد المال منه وأفصله. (فإذا بليتم فاستتروا) كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم. { أيضاً، بحسب صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم، أن سيدنا عمر بن الخطاب كان يسأل أصحابه لمن هذا المبنى؟ إذا رأى أمراً غير عادي.. يقولون له لصاحبك فلان، أليس هذا منهجاً صحيحاً؟ - أيضاً هناك منهج آخر، الرسول صلى الله عليه وسلم عندما جاءت إليه الغامدية قال لها (لعلك... لعلك..) حاول بقدر الإمكان سترها، وأسألك الآن: إذا كانت هناك حالات زنا في المجتمع، فهل نقول: فلان فعل كذا، وننشر ذلك في الصحف؟ ليس من مصلحة المجتمع إشاعة الفاحشة (كل ابن آدم خطاء وخير الخطَّائين التوابون)، ونحن نقول إذا كانت هذه القضايا ذات تأثير واسع على المجتمع وكبير وتستحق الإعلان، ستُعلن. { حتى إذا كان من ضمنهم مسؤول؟ - ان كان هناك رمز للنظام تُفترض فيه العفّة، وعدم أكل أموال الناس بالباطل، وفعل ذلك، سنشهر بهذا الرمز، لكن اذا حدث ذلك من موظف سنسترد مالنا ونعاقبه، وأعتقد أنه ليس من المصلحة أن نقول إن فلاناً سرق. { لماذا؟ - حتى لا تكون المسألة وصمة عليه إلى يوم الدين، هذا منهج الدين، فأنتم لا تتحدثون عن منهج موجود في أمريكا وبريطانيا، نحن لدينا منهجنا وقيمنا وأخلاقنا، وسنتعامل مع هذه القضايا وفق قيمنا وديننا وأخلاقنا. ابن سيدنا عمر عندما كانت لديه جِمال ووجد «عمر» أن أوزانها ثقلت وتحسنت حالتها وقال ابنه: هذه جمالي، قال له: إذا لم تكن ابن أمير المؤمنين لما اختاروا لك المرعى الأحسن والأفضل، وصادرها منه. هذا منهج سيدنا عمر، لكن لم تكن القضيّة أن تشيع، وإنما القضيّة رد الحق لأهله. أنا أريد أن أقول: هناك منهج إسلامي في التعامل مع مثل هذه القضايا، مثلاً: هل أي حد من الحدود التي أُقيمت في ظل الدولة المسلمة تم التشهير بها؟ هل كل من ارتكب حداً عُوقب لكن مُنع من أن يمارس حياته بصورة عادية؟ ففي تلك العهود كان أحدهم يسكر ويُحد، لكنّه كان متقدماً في الجيش، وكان يتلثم ويقاتل، ومن أحسن القادة بعد ذلك، وحسن إسلامه وأصبح قائداً للجيوش. نحن ليس من مصلحتنا عمل حملة تحطيم معنوي للبشر، ومنهجنا منهج إصلاح للبشر وسنظل نحافظ عليه. { طالما أن الموضوع مرتبط بالمجتمع، أليس من حقه معرفة من يسرق ماله؟ - من حق المجتمع أن تُسترجع أمواله، هذا ليس عليه خلاف، ومن حق المجتمع أن نعاقب الفرد عقاباً صارماً ونبتر الظاهرة، لكن ليس من حقنا التشهير بهذا الإنسان حتى نغتاله معنوياً. كل قضية تُقدر بقدرها، لا يمكن أن نقول إن كل المجتمع عورات.. ثم أن مسألة كالزنا وتعاطي المخدرات، هل تستدعي الشفافية؟ { هل أزعجتكم كثرة الحديث هذه الأيام عن الفساد؟ - صحيح أنه الآن كثر الكلام عن الفساد، وأعتقد أن هذا جاء من تلقاء المعارضة بصورة عامة، حتى تصم النظام وتقول إننا نريد أن نستجيب لدواعي قيام الثورة على مستوى السودان، لأن هذا الأمر كان جزءاً من قيام الثورات العربية. أقول إن الحديث عن الفساد في الفترة الأخيرة لم يأت خبط عشواء. { إذن أنت ترى وجود جهات تقف من خلفه؟ - هو حديث مُخطط ومرتب ومبرمج من المعارضة حتى تعطي أحد الأسباب لقيام الثورة في السودان، وواضح جداً أن الشعب السوداني لم يستجب لهذا الحراك من المعارضة. { إلى ماذا أرجعتم عدم الاستجابة؟ - الشعب يدرك أنه ليس هناك قضية ضخمة وكبيرة بهذا الحجم، حول الفساد، ولو كان هناك فساد بهذا الحجم لما كان هناك إنجاز وتنمية، والمواطن يشعر ويشهد بما يدور، والفساد عدو للتنمية، إذا كان المال العام متاحاً لبعض البشر فأنت لا تستطيع تنفيذ برامجك التنموية، لذلك هذه القضية مصطنعة ومفبركة، تقوم بها المعارضة لتشويه صورة النظام. { الحالات التي كُشفت لم تُعلنها المعارضة.. ما يدل على حقيقة وجودة؟ - هذا لا يعني عدم وجود فساد، نحن نعترف أن هناك حالات فساد موجودة داخل المجتمع، ولا تخلو أي دولة مهما كانت مثاليتها من صور الفساد، حتى في النظام الأمريكي كانت هناك قضيّة «ووتر جيت»، وهي قضية فساد. الذين يتحدثون عن الشفافية هذه واحدة من القضايا التي كانت ظاهرة ومعلومة، وكثير جد من القضايا الآن تُثار في المجتمعات الغربية بصورة عامة، وآخرها كانت قضية النواب في مجلس العموم البريطاني، الذين كانوا يتقاضون أموالاً ليست من حقهم، ونحن نعترف أن هناك صوراً للفساد، لكن ليست هناك ظاهرة لاستشرائه داخل النظام، وموقفنا ضد الفساد، وسنحاربه حتى نطهّر المجتمع، وفي النهاية لا نستطيع القول إن هذه الدولة خالية بنسبة 100% من الفساد؟ { هل من بين الحالات الفردية التي ذكرتها، حالات لمسؤولين كبار في الدولة؟ - حسب ما أعلم ليست هناك حالة لأحد كبار مسؤولي الدولة. { الشارع العام يسأل: ممَّ يخشى المؤتمر في استمراره لاعتقال الترابي على خلفية تدهور صحته؟ - من ناحية سياسية وهذا موقفي الخاص السياسي حول ما يتعلق بالأمر، أولاً أقول إن التبرير لاعتقال الترابي كان تبريراً أمنياً.. أن هناك قضايا أمنية، لكن رأيي الخاص إن كانت هناك قضية أمنية، كان يقدم الترابي إلى محاكمة في ما يتعلق بالقضية الأمنية، وواضح جداً أن هناك تجاوزاً لفترة الاعتقال المنصوص عليها وفق القوانين، فإمّا أن يُقدم الترابي إلى محاكمة، كما قالت الأجهزة الأمنية، أو يطلق سراحه، هذه هي الخيارات المتاحة، وأنا أدعو إمّا أن يُقدم الترابي إلى محاكمة أو يطلق سراحه من المعتقل، لأنه لا يوجد أي تبرير بعد انقضاء الفترة المنصوص عليها في القوانين لاستمرار حبس الترابي، ينبغي احترام القوانين بصورة عامة داخل السودان، نحن في ظل دولة مدنية لها دستور وقوانين. { برأيك لماذا لم يُقدم إلى استجواب حتى الآن؟ - هل أدركت ما قلته لكم؟ الحديث أن هناك قضايا أمنية، تستدعي في فترة زمنية محددة أن تُثبت هذه القضايا الأمنيّة ويقدم للمحاكمة، انقضى الزمن وإلى هذه اللحظة لم تقدم أدلة فينبغي أن يطلق سراحه { يدور حديث بين منسوبي «الشعبي» عن إمكانية قيام «الوطني» في هذه الأيام بإطلاق سراح الترابي؟ - المؤتمر الوطني ليس له علاقة باعتقال الترابي، اعتقاله صدر بموجب قرار من الأجهزة الأمنية، وفق قوانين الأمن، قالوا لديهم بعض المآخذ الأمنية حول الترابي، لذلك المؤتمر الوطني لم تكن له علاقة باعتقاله، لأنه اعتقال مربوط بقضايا أمنية، وينبغي أن نسلك سلوكاً موضوعياً في هذه القضية، وإن لم نستطع ذلك فعلينا إطلاق سراحه.