كتب رئيس تحرير الزميلة صحيفة «التيار»؛ الأستاذ عثمان ميرغني، مقالة حول ما وصفها ب «بروسترويكا» المؤتمر الوطني، أو «إعادة البناء» والإصلاحات داخل الحزب الحاكم، على خلفية الجدال الذي دار بين اثنين من أقوى حلقات القيادة في الحكومة، وانتهى بإقالة واحد من أبرز قيادات الحزب الأمنية والسياسية. وخلص الكاتب إلى أن ما بدا مؤخراً يجيء في إطار «ثورة» إصلاحية تتضمن تغييراً في المفاهيم والأدوات، التي تربى عليها الحزب، بيد أنني - رغم فارق الخبرة والعلاقة بأطراف القضية - توصلت إلى نتيجة مختلفة عن التي وصل إليها المهندس عثمان ميرغني!! وعلى الرغم من أن صاحب عمود «حديث المدينة» قد استدعى العديد من النقاط الدالة على أن التغيير قادم في حزب المؤتمر الوطني، لصالح تيار على الآخر؛ إلا أن «إقالة قوش» ليست تغييراً في داخل النظام، بقدر ما هي بداية تغيير في النظام نفسه. وذات الافتراضات التي ساقها حول الصراع المزعوم تذهب إلى نتائج أخرى، توضح أنها لعبة «بولتيكا»؛ سياسية في غاية الخطورة، لأن كافة اللاعبين المحترفين والهواة سيخسرون فيها، ولن تقود - إذا صحت الافتراضات - إلا إلى «خسارة النظام» بجميع تياراته، ولن تكون لصالح طرف على الآخر بقدر ما ستكون في صالح الجالسين على الجانب الآخر من النهر (المعارضة) أو القوى الرافضة للمعارضة والنظام. { كيف..؟! الافتراض الأساسي الذي يتفق عليه كافة المحللين السياسيين، هو أن التباين في وجهات النظر بين مساعد رئيس الجمهورية؛ الدكتور نافع علي نافع، ومستشار الأمن؛ الفريق صلاح عبد الله قوش، يمثل شكلاً من أشكال التنافس بين تيارين في الحكومة، يمثل أحدهما نائب الرئيس الأستاذ علي عثمان طه والآخر يمثله (الرئيس، ووزير الدفاع، ونافع علي نافع)، رغم أن عثمان ميرغني أشار في مقالته إلى أن الرئيس يحلق بجناحين، طالما أنهما لا يتصادمان ولا يتنافسان على ما هو أعلى!! وهذا التحليق أثبت الرئيس نفسه أنه ليس صحيحاً، عندما أصدر قراراً أمس بإعفاء الرجل الذي ظل طيلة الفترة الماضية قائماً على أمن النظام. وعكس ما يتصوره العديد من المراقبين، وبعض القريبين من دوائر الأقوياء في السلطة؛ فإن الخلاف بين التيارين ليس خلافاً قبلياً، وإنما هي محاولات من الطرفين لحشد الدعم من المنتمين إلى قبيلة كل طرف داخل دائرة السلطة نفسها، من أجل محاصرة الطرف الآخر، وتحجيم نفوذه في السلطة. ويؤكد هذا الافتراض أن ما سمِّيت بمجموعة الرئيس، تضم وزير الدفاع، وبكري حسن صالح، ونافع، والمهندس أسامة عبد الله، وعلي كرتي وعادل عوض. والأخيران ليسا من ذات القبيلة التي ينتمي إليها الرئيس أو وزير الدفاع، بل هما قبلياً ينحدران من قبيلة نائب الرئيس. ومع ذلك فإن البعض يريحه أن يوظف في الصراع الأطر والانتماءات القبلية، فيبدو وكأنه صراع بين الشايقية من جانب، وبين الجعليين والدناقلة من الجانب الآخر، كما فسره الصحافي اللامع طلحة جبريل. وبما أن نظرية التنافس القبلي باتت مثل ورق التوت، وبدأت في التساقط؛ فإن الصراع - في ما يبدو - صراع داخل التنظيم نفسه، الذي تمثل فيه الحركة الإسلامية أحد روافده الأساسية، وهي في هذه الحالة يمثلها علي عثمان محمد طه، وليس نافع علي نافع، وفقاً للمعايير التنظيمية والهيكلية التي نشأت عليها الحركة الإسلامية في السودان.يقول المحلل السياسي البارز؛ البروفيسور حسن مكي، في مقابلة أجريتها معه، إن الأستاذ علي عثمان محمد طه يمثل الحركة الإسلامية، التي هي صميم المؤتمر الوطني، بقوتها وقدرتها واستحقاقاتها، لذلك لا بد أن تكون موجودة، وإنه من الصعب الاستغناء عن طه في هذه المرحلة. ويعتقد مكي أن الحركة الإسلامية رغم ما تعرضت له في الرابع من رمضان، ما تزال رافداً مؤثراً في الحزب الحاكم. ومن ثم، فإن التحليل الذي يشير إلى أن الرئيس لن يقف بعيداً هذه المرة، وأنه يساند مساعده في القصر للإطاحة بنائبه - إن صح - فسيعقِّد الأوضاع أكثر مما يفيدها، نحو التغيير الذي لا يؤثر على بقاء النظام، لأن إبعاد التيار الذي يمثل الحركة الإسلامية في النظام لن يكون سهلاً هذه المرة، فهذا التيار لا يقل أهمية ووزناً في الحكومة عن الوزن الذي تمثله المؤسسة العسكرية (الصادق المهدي يؤكد أن الجيش مؤدلج)، على الرغم من أن آخرين يعتقدون أن ذات السيناريو قد تكرر مع زعيم الحركة الإسلامية نفسها، عندما تم إبعاده عن السلطة بمساندة جزء مهم من الحركة الإسلامية، ولكن البديل هذه المرة ليس علي عثمان، وإنما نافع علي نافع. مؤكد أن للبشير خياراً آخر للإبقاء على حكومته بعيدة عن تأثير الحركة الإسلامية وممثليها في النظام، وهو الاتجاه السائد الآن بالاقتراب من الحزبين التقليديين الكبيرين (الأمة والاتحادي)، أي أن الجديد في السيناريو القديم لصراع «القصر والمنشية» هو إضافة عنصر جديد لمساندة البشير في حال لم يستطع تيار نافع السيطرة على كافة المقاليد. ولعلي عثمان وتياره أيضاً خيارات، ففي هذا التيار لا يمثل طه الزعيم الروحي فقط لجزء من الحركة الإسلامية الحاكمة، كما كان يمثل هذا الوضع الدكتور الترابي، ولكنه يمثل التيار الذي خطط ونفذ انقلاب (89)، ولا يعقل أن لا تكون لديه أيدٍ خفية في كل أجهزة النظام الحساسة، وبالتالي فإن الانقلاب ضده بهذه الصورة يعرّض النظام لمواجهة داخلية حادة، لن يكسب فيها أي من الطرفين، في وجود آخرين متحفزين لاعتلاء كرسي الحكم. ولدى طه خيار الاستناد على تأثير المجتمع الدولي، على خلفية دوره في اتفاقية نيفاشا وكونه لا يواجه اتهامات دولية، كذلك لديه خيار «دراماتيكي»، وهو غير مرجح، ولكنه ليس مستحيلاً، وهذا الخيار يتمثل في عودته إلى زعيمه السابق، الذي لم يشأ طيلة فترة الانشقاق التعرض إلى علي عثمان، رغم محاولات من هم حوله تخوين طه وتحميله مسؤولية ما جرى في الرابع من رمضان، بيد أن هذا التيار المعارض ليس جديداً فقد ظل في هذا الموقف منذ تقلّد طه لمنصب نائب الأمين العام في الجبهة الإسلامية القومية!! الأمر الأخير المهم، هو أن الجدال بين التيارين المتصارعين في حزب المؤتمر الوطني يقلل من قيمة الحوار الذي يجريه الحزب الحاكم مع القوى السياسية المعارضة، التي لن تثق بحزب تعتري مفاصله الأساسية الخلافات، بل إنها تستفيد من مثل هذا الصراع في «خلخلة» الحزب الحاكم، وتذكي النيران بين أطرافه حتى يصل مرحلة احتراق البناء نفسه، أو على الأقل ستنتظر المعارضة الفائز من الطرفين، للبدء من جديد في التباحث والحوار مع الأقوياء الجدد، وإذا وصلت معهم إلى طريق مسدود، فإنها ستنظر إلى الخاسر للاقتراب منه أكثر والاستفادة منه في صراعها المستقبلي مع الأقوياء الجدد، كما حصل ذلك عندما احتضن تحالف قوى المعارضة حزب المؤتمر الشعبي بزعامة الدكتور حسن الترابي، بعد عملية «كسر العظم» التي تعرض لها النظام عام 1999م، وكان هدف التحالف أصلاً أذى من هم في السلطة.