مساء الأربعاء الماضي صدّرت السواحل الشرقية نبأ زيارة الرئيس عمر البشير إلى محلية (حلايب) عبر تصريح أدلى به والي البحر الأحمر محمد طاهر إيلا للمركز السوداني للخدمات الصحفية، فسرى النبأ كما النار في (هشيم) الوسائط الإعلامية السودانية والمصرية على حد سواء، ليتصدر المثلث الحدودي المتنازع عليه بين مصر والسودان سطح الأحداث مجدداً بعد أقل من أسبوعين من اتفاق وزير الخارجية علي كرتي مع نظيره المصري نبيل العربي في مباحثاتهما الأخيرة بالقاهرة على مواصلة الحوار حول الإدارة والتعاون والاستثمار المشترك في (خاصرة) وادي النيل. ولم يكن عصياً وقتها أن النبأ له ما بعده، فزيارة الرئيس البشير إلى منطقة تقول خطابات الخرطوم الرسمية إن القاهرة (احتلتها) بوضع اليد، ستكون الأولى لمسؤول سوداني منذ النصف الثاني من تسعينيات القرن الماضي، وما حل بعد إعلان النبأ تجلى في وصول وزير الخارجية المصري نبيل العربي إلى الخرطوم على رأس وفد وزاري يستحق صفة (رفيع) بعد أقل من (48) ساعة دون سابق إعلان، رغماً عن توقيت سابق كانت قد حددته وزارة الخارجية يفيد بوصول الرجل ووفده إلى الخرطوم في الرابع عشر من يونيو الحالي لمواصلة ما انقطع من حديث. وصل العربي إلى الخرطوم مساء الجمعة الماضي ليجد كرتي في استقباله، ليدلفا سوياً إلى منصة مؤتمر صحفي تبادلا عليها شرح أهداف الزيارة دون أي إيحاء بأنها غير مبرمجة على جدول أعمال كليهما، مكتفيين بالتأكيد بمفردات مغايرة على أنها ليست سوى امتداد للقاءاتهما السابقة. لينخرطا سوياً صبيحة اليوم التالي في مباحثات مطولة خرجا بعدها لشرح مخرجاتها للأجهزة الإعلامية التي خفت إلى مباني وزارة الخارجية مع شروق شمس السبت. عزف الرجلان عن الإدلاء بأي حديث يتصل بالمثلث قبل أن يفتحا باب الأسئلة للصحفيين الذين سارعوا إلى طرح سؤالهم الملح، فسارع كرتي بنفي أن تكون زيارة العربي خطوة استباقية لزيارة البشير إلى حلايب مدللاً على ذلك بأن كلمة (حلايب) لم تذكر في كل مباحثاتهما. وقال إن الإعلام السوداني أخطأ في نقله لزيارة البشير وإن الإعلام المصري لم يستفسر عن حقيقتها لأنها لن تشمل مثلث حلايب بل تقتصر على مدينة أوسيف. وأوسيف هذه تبعد نحو (280) كليومتراً عن المثلث الذي باتت تحمل اسمه عندما حاولت السلطات دون جدوى تسميتها بمحلية حلايب في مغالطة واضحة لحقائق التاريخ والجغرافيا. وعلى الضفة الأخرى كان العربي يستشهد برغبة الطرفين في ترك الخلافات حول السيادة جانباً والبحث عن المصلحة المشتركة لا البحث عن أمور تثير الخلاف، مذكراً بأن السودان ومصر كانا دولة واحدة ويتحتم عليهما تدعيم الإيجابيات لا التنقيب عن سلبيات غير موجودة بالمرة. ونفي الرجلين يستدعي من الذاكرة تداعيات قرار الرئيس البشير في الثامن من مارس الماضي بأن يكون أول رئيس على الصعيدين العربي والأفريقي تطأ قدماه أرض الكنانة بعد نجاح ثورة 25 يناير التي جزم الجميع وقتها بأنها لامست قضية المثلث من أحد أضلاعه قبل أن يقابل كرتي أطروحتهم الوليدة بالنفي القاطع. وبمقاربة سريعة لوقائع الزيارات المتبادلة بين الطرفين منذ تشكيل حكومة الثوار برئاسة عصام شرف نجد أن القاسم المشترك بينها هو الغموض الذي يكتنف مصير المثلث والاكتفاء بدلق معسول الكلام تجاه قضية تتعلق بالسيادة، طوباها بفيض الرجاء. إلا أن ثمة إشارات واضحة برأي بعض المراقبين تؤكد أن الخرطوم منذ خلع حسني مبارك في فبراير الماضي تساوم القاهرة مساومة مكتومة تفضي إلى مقايضة المثلث بضمان استمرار تدفق (55) مليار متر مكعب هي نصيب مصر من مياه النيل المتنازع حوله بين دول المنبع السبع من جهة ودولتي المصب من جهة أخرى عبر تقليل الضغط عليها ومساندتها في حرب المياه التي تلوح نذرها في خط الأفق. و(بوليصة أمان) الخرطوم هي بالضرورة لمصر مسألة حياة أو موت فأهلها أنفسهم يصفونها ب(هبة النيل)، وهي مقايضة في نظر الخرطوم بها قدر عال من العدالة يجنب القاهرة مشقة وضع الملف في منضدة العدالة الدولية لحسم هوية مئتي ألف من سكانها يحملون فعلياً الجنسية المصرية ويتأهبون لاختيار نائبهم في مجلس الشعب المصري في أول انتخابات برلمانية حقة بشمال الوادي. وسواء أصحت فرضية المساومة تلك أم لا، تبقى قضية حلايب وحدها دون غيرها بمثابة (ثيرموميتر) لقياس متانة العلاقة بين البلدين اللذين تقول المكاتبات الرسمية إنهما (شقيقان)، حلها يفتح آفاق الخلاص المشترك وتركها رهينة للمفردات الدبلوماسية يجعلها قنبلة موقوتة لا يملك الطرفان (زر) تفجيرها.