عندما يحل الليل، يغلق الكثيرون أبواب منازلهم وغرفهم الخاصة، لكن هناك أناساً آثروا النوم في شوارع العاصمة وأسواقها، يفترشون الفناء الواسع ويتدثرون بالسماء، وآخرون ينزوون داخل مركباتهم (الهايس- الأمجاد - والحافلات) بينما يفضل عمال المطاعم النوم على أسطح دكاكينهم، وهي ظاهرة في ما يبدو «سودانية خالصة» تسببت في إثارة عدد من التساؤلات بدأت من الأسئلة البريئة مروراً بالرومانسية حتى الأمنيّة، أليس لهؤلاء الناس بيوت أو أقارب ينامون عندهم؟ أم أنهم يودون مغازلة القمر؟ أم ينتظرون قدوم الشمس متبرجة مبكراً؟ ألم يشكل وجود شباب ورجال ومراهقين وأطفال في دهاليز الأسواق وستار الدجى أي مهدد أمني على المجتمع؟ (الأهرام اليوم) لاحظت ظاهرة النوم في الطرقات والحواري وتنقلت في حياة الذين ينامون في الشوارع في ظل محاذير اجتماعية ومهددات أمنية وغيرها من المشكلات التي تنتجها هذه الظاهرة. قبل أن تغادر الشمس خدرها، وما زالت الحياة تتمطى على أسرَّتها، تجولت (الأهرام اليوم) في السوق الشعبي بأم درمان، حيث اصطدمت الرؤيا بمشاهد أبعد ما تكون عن الأسواق، مشاهد للأشخاص يغطون في نوم عميق وسط السوق غير عابئين بمياه الصرف الصحي وكسوراته حولهم، النفايات المتكومة والقاذورات المبعثرة هنا وهناك، رائحة التوابل المختلطة بالتراب، بدت الحياة هناك في أبسط صورها، أو أهونها، الأمر سيان، فهي لا تعني للكثيرين منهم (غير سرير خال من أي فرش)، يعني (ختة رأس والصباح رباح)، بعيداً عن أي طقوس للراحة. شقت (الأهرام اليوم) طريقها وسطهم متسائلة: من هم هؤلاء النائمون، أناس عاديون مثلنا، مجانين، حرامية، هاربون من السجون، ضالو طريق؟ في تلك الأثناء بدأت الحياة تنفض عنها كسل النوم، وبدأ النشاط يدب في أوصالها. بدأ الناس يستيقظون من منامهم في السوق، يرتبون فوضى هيئتهم، بينما المبكرون منهم في إحدى الزوايا مقابل زريبة الخراف تحلقوا في أسراب حول (ست الشاي) التي أحيطت بأربعة من أسرتهم المستأجرة، اكتظت بهم جميعاً يتبادلون القفشات على نكهة الروث وإيقاع ضحكاتهم التي شقت هدوء الصباح. ترددت لوهلة ثم اقتربت من مجموعة ضمت أشخاصاً بأعمار متباينة، كانوا يجلسون القرفصاء وسط أسرتهم المتقابلة وكل شخص يمسك بكوب شاي، وآخر يضعه أرضاً، حيث قال ل(الأهرام اليوم) المواطن مهدي فضل من منطقة دار حامد، وهو شاب في الثلاثين من عمره، قال: أنا ضيف من منطقة شمال كردفان أتيت إلى الخرطوم بغرض إجراء صيانة لعربتي ولدي إخوان يعملون في السوق بعربات الكارو، البعض لديهم بهائم. وأضاف: أنا أنام في السوق معهم، ويستأجرون لي سريراً ولا أبقى في السوق كثيراً، أقضي مدة تتراوح بين (15-20) يوماً. وحول هل في الأمر خطورة عليهم؟ أجاب: نحن أسرة كاملة، مجموعة تتجاوز العشرين شخصاً أحياناً من الزائرين والمقيمين في السوق. ومن جانبه قال تحماد محمد تحماد، وهو أيضاً من منطقة دار حامد: أنا مريض خرجت لتوي من المستشفى حيث قمت بإجراء عملية (خراج) في العنق وليس لدي أقارب بالعاصمة. قاطعه آخر: (ما في داعي ذاتو لإزعاج الأهل السوق بشيلنا بنرقد وبنأكل وبنتونس لمن نرجع لأهلنا). سلام المعز محمد سالم، شاب في مقتبل العمر من غرب الأبيض (أب زبد) يعمل في بيع الخراف، أكد أن هناك خطورة كبرى لنومهم في السوق حيث المشردين يمثلون خطراً بسلوكياتهم غير المنضبطة ويتسببون في إزعاج بالغ، وأيضاً هناك (حرامية) يقومون بخطف الخراف ليلاً بوساطة العربات حيث يقوم السائق بتهدئة السرعة كأنه يريد أن يتوقف و(ادرعوا البهائم) يخطفوها، والآن خطفت منا (15) بهيمة وأبلغنا الشرطة لكن لم تحل مشكلتنا بعد. وأضاف سلام إنه يقضي يومه بالكامل في السوق نهاراً في ظل الشجرة وفي الليل (أجر سريري بعيداً). وأشار زميل له إلى شجرة.. تلك غرفة نومي ويواصل سلام : أستقبل ضيوفي في السوق وأقوم بإكرامهم. وقال صاحب تأجير الأسرة إنه يؤجرها ليلاً ويجمعها نهاراً وإن الناس هنا يفضلون إيجار الأسرة على شرائها فبعضهم غير مستقر وأيضاً حمايتها مشكلة. في الترحيلات تعد منطقة الترحيلات من أكبر مناطق تكدس النائمين ليلاً بالأسواق، وهي مرقد للمسافرين الذين يأملون في اللحاق بمواعيد سفرهم باكراً، وأجمع سائقون استطلعتهم (الأهرام اليوم) على أن المنطقة تعد آمنة بالنسبة إليهم وهذا أنسب مكان يقضون فيه الليل حسب طبيعة عملهم، يقول (أ.س) من النيل الأبيض، وهو سائق شاحنة: لا أستأجر سريراً وأنا برفقة مساعدين لي ننام على (ضهرية) العربة فوق البضائع، ولدينا مراتب وسجاد نحملها معنا في الحل والترحال. في الملجة الحراسة أما في الملجة وهي مكان بائعي الخضر والفاكهة فقال محمد جمال ل(الأهرام اليوم): أنام في السوق لهدفين الأول حراسة بضائعنا ومعظم الناس ينامون في السوق لنفس الغرض والهدف الثاني أن السوق يمثل مأوى بالنسبة لنا، وهناك من لديه أسرة لكن يفضل النوم في السوق حتى (يحصِّل) الزبائن باكراً. الأمجاد منزل وشغل وجوار المستشفى الصيني التقت (الأهرام اليوم) حمدان عوض حمدان من أرياف مدينة الدويم يعمل سائق أمجاد، قال: (هي عربتي شغلي بالنهار وبيتي بالليل)، فكانت ضهرية العربة تحوى ملابسه وشبشب الحمام والصابون وفرشاة الأسنان وحتى المرآة ومعدات الحلاقة، قال: أدخل الصباح المستشفى أستحم وأتوضأ وأعطي ملابسي للمكوجي. وأضاف: زوجتي وابني الصغير في بلدي وأريد توفير نفقات الإيجار ولا أرغب في الذهاب للأقارب (كدا مرتااااااح). شكوى من الموردة بينما شكت إحدى مواطنات حي الموردة ل(الأهرام اليوم) من نوم عمال مطاعم الأسماك على أسطح الدكاكين والمنازل المجاورة، ووصفته بالأمر غير المضمونة عواقبه، وأضافت: من أين نضمن أن هؤلاء جميعاً عمال؟ وأضافت: هذه ثغرة تهدد أمننا. وعلق مدير محلية أم درمان الأستاذ جلال بأن لا علم له بهذه الظاهرة وبعد أن يتقصى عنها سيرد على الصحيفة. سابقة في السوق الشعبي قالت مصادر ل(الأهرام اليوم) إنه في الفترة السابقة تم تجفيف السوق تماماً بعد وقوع عملية تحرش جنسي واغتصاب فتاة وقتلها بالسوق الشعبي أم درمان في السنوات الماضية، وقامت الجهات الرسمية بتوزيع استبيان تضمن محاور ذات حساسية عالية وتم ملؤها من قبل النائمين في السوق وبناء على نتائجه تم إجلاؤهم من السوق تماماً لكن عادت الظاهرة مجدداً في مختلف أسواق العاصمة؛ سوق بحري والسوق المركزي وأصحاب الهايسات والأمجاد ينامون بجوار المستشفيات. من داخل محلية أم درمان مدير السوق الشعبي أم درمان الأستاذ آدم كبير البشير قال ل(الأهرام اليوم) إن هذه الظاهرة قديمة وليست جديدة وقال: الذين ينامون في السوق ينقسمون إلى فئتين الأولى فئة المتسولين والمتشردين والفئة الثانية هم أصحاب الشاحنات السفرية والحافلات وبعض المسافرين وأصحاب الخضر والفاكهة. وأضاف: الظاهرة بدأت كبيرة ولكن بجهد مشترك بين كل الأجهزة الإدارية والعدلية تقلصت للحد الأدنى الذي نعتبره غير مزعج. وأكد كبير أن كل الذين ينامون في السوق تتم مراجعتهم ليلاً يومياً لمعرفة أسباب وجودهم في هذا المكان وإذا كان ردهم مقنعاً نتركهم وإذا كان غير مقبول نطردهم فوراً من السوق، أما المتسولون والمشردون الذين يعتبرون السوق ملاذاً آمنا لهم فقمنا بمساعدة الرعاية الاجتماعية برئاسة المحلية بحصرهم واتضح لنا أن معظمهم ليس لديه أقارب في الخرطوم وبعضهم غير سودانيين تم حصرهم (53 شخصاً). ويضيف أن هناك مساع لترحيلهم إلى دار الإيواء فهم يسببون كثيراً من مشاكل التردي البيئي والصحي في بعض الأماكن من السوق وبالتعاون مع مشروع النظافة في محلية أم درمان استطعنا أن نقلل خطر التردي الصحي المترتب عليها، أما في ما يخص أصحاب اللواري السفرية وبعض الركاب، فقد تم حصرهم في منطقة محددة حتى تسهل مراقبتها والإشراف عليها وهي منطقة الترحيلات ويتم تأجير أسرة لهم ويتم نصحهم باستخدام الحمامات العامة ويديرها شخص بعطاء نيابة عن المحلية. وقال: يتراوح عدد الأشخاص بين (50-150) وعددهم غير ثابت وتوجد (لكوندات) بالسوق الشعبى إلا أن ثقافة المواطنين لا ترتقى إلى الاستفادة منها وأيضاً التكلفة المالية تحول دونهم وتلك (اللكوندات). جميع من ينامون بالسوق هم أناس بسيطون جداً لا يملكون المال وأصحاب المطاعم ينامون في حدود أماكنهم وهي محدودة جداً وتقلصت كثيراً في الآونة الأخيرة ونحن نسعى لتجفيف السوق تماماً أما أصحاب المواشي فالسوق ليس مكانهم وهم ممنوعون بالقانون ومفتوحة في مواجهتهم بلاغات عدة للإخلاء بغرض تحويلهم إلى سوق المواشي وعملنا على إنارة السوق كاملاً لمزيد من التأمين.