تبدو مخاطرة الحكومة، آمنة إلى حد ما وحسنة النوايا بمجازفتها في المغامرات الاتفاقية المستمرة مع الحركات المتمردة، فمهما تطاولت الحناجر وتمددت الأحلام، فإن السياسة المتبعة هي تنفيذ المطالبات لراحة الحركات! وربما لراحة الحكومة أيضاً. وعقب الحديث المتناثر قبل شهور إبان الزيارة الفريدة للسيناتور الأمريكي (جون كيري) التي لم تفصح واحدة من الجهتين عن تفاصيلها الدقيقة، كانت أحلام الحكومة تتسع لخيال الانفصال والالتزام به - رغم كل شيء - مقابل التغاضي عن ديون السودان، وأشياء أخرى! وكنا نتوقع أن يمضي الأمر بذات سلاسة الوصول إلى صفقات مربحة للطرفين بلا متاعب لاحقة. لكن الحقيقة بالطبع غير الخيال مهما اتسع وتمدد، فجاءت تفاصيل الحياة داحضة للواقع جداً.. واستمرت ديون السودان، واستمرت الأشياء الأخرى..! حكمة اليوم تنصح الحكومة بأن تتغاضى عن كل النوايا الحسنة لتستطيع التفكير بمنطق العدو - إذا سلمنا بعداوتهم - وأن تعرف أن مصلحة المواطن السوداني في كافة أنحائه لا يمثلها رهط متهور ارتضى أن يتبادل النار فوق مسافات قريبة من رؤوس أهله وعشيرته. وأنها يجب أن تفرق بين الصفقات السياسية والعسكرية والاقتصادية، ولا شك التجارية! فما يجري منذ أيام هناك في جنوب كردفان التي جرت انتخاباتها بصفقة سياسية حسبت ناجحة حتى خانها أحد الطرفين - الحركة طبعاً - هي محض صفقة سياسية خاسرة، ويوضح بما لا يدع مجالاً للشك أننا لن نتعلم دروس السياسة السودانية أبداً، فلا يوجد دستور في العالم يقر بوجود حزب يمثل سياسياً دولة أخرى مهما اقتربت مسافات حوائطها من الدولة المعنية بوجود الحزب، إن كان مؤتمراً وطنياً داخل الجنوب أو حركة شعبية داخل الشمال! لكن ليّ الحكومة لعنق الحقيقة يجعلها تطمئن إلى حيثيات نطقها بالحكمة اليومية بما يتناسب وبرجوازية سياساتها التي لا تنزل إلى أرض الواقع إلا لتوقعنا على الأرض إما بالسلاح التجاري أو بالسلاح الناري! ونيران (عواسة الآبري) التي تحبها النساء، يفضل أن تظل مشتعلة باستمرار وبميزان حراري تضبط درجاته النساء الخبيرات، ليحافظ على المسافة الفاصلة بين حريق الطرقة أو تمام نضجها الصحيح ليكون (آبري) مميزاً وموزون الطعم والنكهة والمذاق وبالطبع الفائدة - (وهذا موسم اشتعال نيران الآبري فقد جاء رجب شهر الاستعداد لانتظار شعبان ودخول رمضان الكريم.. يعود بالخير إن شاء الله) - وهي نيران حارقة جداً تدمع العيون وتسيل الأنوف، وتشوي الوجوه والأيدي لكنها محببة لما يرجى منها من عظيم عمل متقن، لهذا تكون (عواسة الآبري) جماعية بفكرة النفير المعروفة لدينا جداً، لتتبادل النساء الحريق بنسبة كذلك موزونة كي لا تتجاوزها إلى درجة الاحتراق الجلدي! والجلد الكبير الذي يمارسه الناس هناك في مناطق المساس والتماس والحماس، هو صبر عظيم على حرائق الحقائق غير المتقنة، التي تكوّن مزيج الاتفاقيات التي يظن الناس بها خيراً، كي تعوضهم فترة الصبر تلك خيراً مستداماً بسلام ونوم طبيعي. ومن يفكر في ما يتعرضون له، ومن يسمع ويشاهد أو يعرف عبر الأقربين يعي أن نيران العواسة المشتعلة هناك لا يتبادلها معهم نفير جماعي لتقليل حدتها عليهم، ولا تتحرى هي كنيران، الوزنة المعقولة كي يستطيعوا معها صبراً، لكنهم مع ذلك صامدون على انتظار خير قادم في غضون شهر أو استعداد! مستعدون كشعب غير مثقف سياسياً، الوقوف خلف مخاطرات الحكومة ومع أحلامها - الخيالية - وضد هجمات الغير عليها، لكن لتبادلنا حريق العواسة بشيء من التواضع الجميل، بدلاً من الاستمتاع وحدها ومن بعيد بنكهة (الآبري) أو من قريب بطعمه اللذيذ عقب الخروج من اتفاق جاف وحاف..!