يأزُّ الهاتف مساءً، وحينما أرى على شاشته اسم المتصل وصفة الأهرام، أعرف بما لا يزرع اطمئناناً في نفسي أن الأمر يتعلق بالعمود، وأخرجني من شك الاحتمال بالرد، فيأتيني مطمئناً بسلامه الأخ (محمد) سكرتير التحرير الفاضل، وحيثما يكون سببي فهو أيد أمينة وأذن سليمة تستجيب لعذري مهما بلغ فجوره و زنقة زمنه! والزمن هو العامل الرئيس لكل مهنة إعلامية يتحكم فيك ويحكمك ويغلق في وجهك الباب ولو كرهت، وفي الصحافة وما يتعلق بالأعمدة اليومية أنت محكوم بالزمن وبمواكبة مادتك للأحداث الساخنة التي يجب أن تلحقها أنت ككاتب بالرأي، وفي ذات ذاك الزمن أنت ملزم أن تعد سكرتير التحرير بأنك ستفي بزمن الأمان للملزمة الناقصها عمودك في وقت وجيز ومريح. والراحة المطلقة التي فرضها علينا البريد الإلكتروني الإيميل كخدمة ممتازة ومميزة تريح بالك وتوفر مالك في الذهاب من وإلى مباني جريدتك حتى ولو كنت مداوماً بشكل ثابت غير حالنا ككتاب بعيدين في المكان مزنوقين في الزمان! تجعله يختزل الزمن ذات نفسه الذي يتمدد في حال ذهابك بنفسك إلى أكثر من ثلاث ساعات زائد زمن الطريق المحكوم بالزحمة وأخلاق السائقين! تختزله إلى دقائق من فتح بريدك الإلكتروني والنقر على رسالة جديدة للباقي طبعاً! وطبعي كسولة جداً أفكر بقدمي ألف مرة قبل أن تأخذ عني قرار المشي في مشوار عمل وهذا شأن يعنيني لكن أتمنى إيجاد حل معي ما دامت السيرة جات بجانب أن الكتابة بالنسبة لي يجب أن تكون في مكان هادئ وبلا تقاطعات، ليس لأن الرأس متكلف لكنها عادة ألفتها منذ بدايتي في دنيا (الجرايد) مع (عم مرغني) الله يديه العافية إنّ مكتبنا كان هادئاً جداً لدرجة أن أنفاسنا بانتظامها كانت تعوّض عدم وجود مكيفات هواء! ولهذا وجد الإنترنت هوى في قدمي ونفسي التي أمسكت عن الكتابة على الورق الجميل ذي الروائح الطازجة وخانته مكشوفة الخاطر مع أزرار الكمبيوتر الباردة، حيث لا تترك أثراً على إصبعك إنما العكس تماماً! وتمت بيننا معاهدة على بياض نية إرسال كل ما يتعلق بي فيستقبلونه كريمين هناك، مؤكدين بمقدرتهم المهنية على بلاغة التكنولوجيا ومقدرتها على خرق حاجز الزمن واختزال الكلام الكثير والصور في أتاشمينتاية مصطلح خاص بي من كلمة أتاشمينت! تصل إلى مرادها ثم تتمدد عموداً أو مقالاً نتحدث فيه عبر ذات البريد الإلكتروني. إلكترونياً هكذا استمرت حالة الكسل والهواتف المطمئنة، لا يقلقنا إلا تأخر وصول النت في مواعيده إليّ ومني، لتبدأ حالة الذعر التي تجعلني أدق أزرار كمبيوتري حتى يطير قلبه من الخوف، قبل أن يدق هاتف الصحيفة أحياناً يكون بصوت (وديدي) الذي لا يقل بهدوئه عن (محمد) مما يجعل قلبي كذلك يقيف! أما الإنترنت فيقيف متى شاء مكان ما أراد لا يخاف في وقفته أتاشمينت مرسل أو مقال صحفي، يتزلج بلا أمان على حافة الوقت. بمساعدة الطقس أو بدونه بشحنك الخمسيني أو بألف جنيه بحاجتك لفتح بريد أو صفحة أو موقع لدراسة أو عمل أو إمتاع، ففي كل الأحوال الأمر لا ينجح. رغم النجاح السوداني الكبير في ثورة الاتصالات التي فاقت في قدرتها وتكنولوجيتها الكثير من الدول العربية السابقة لنا في ذات المجال إلا أن أزمة الإنترنت لتلك الشركات قاتلة، من بطئه إلى أزمان عدم نشاطه من الأساس ربما لهذا لم تقلق حكومتنا من ثورات الفيس بوك! فتغرينا الشركات بكل ما ملكت إعلاناتهم بأنّ الإنترنت عندها مجاني وسريع وبريح البال والأقدام و..عفواً سأعود بعد قليل، هاتفي يرنّ: (أهلاً يا محمد، معليش حأرسلو تاني! أسوي شنو؟ الإنترنت كان ريح كراعي ما بريح بالي، ومن الأساس ما جاني!).