بهذه الكلمات دهمنا مواطن حانق على الوضع الراهن، قبل أن يسترسل بصوته المختنق متحدثاً ل(الأهرام اليوم): «السكر اختفى من الأسواق وما لم يظهر قبل رمضان بسعر مناسب سوف تلحق به الحكومة»..!! الكلمات ليست قفزة من سماء صافية، بل لها ما يبررها ويسندها، ففي مفتتح جمهوريتها الثانية بدت البلاد محاصرةً بأكثر من أزمة جاثمة على رؤوس العباد: جفّ رصيد الصبر لدى المواطن مع غياب المياه عن الصنابير ما أدّى إلى خروج النسوة (بالجرادل) ورؤوس (الحنفيات) في عدد من الأحياء يطالبن بحلّ المعضلة، السكر هو الآخر غاب واستعصى على ذوي الدخل المحدود و(المهدود)، وموجة الغلاء بين يدي الشهر الكريم أضحت تؤرق مضاجع الجميع..!! { والأمر كذلك، لم يكن من الغرابة أن تحشد المعارضة جملة هذه القضايا المطلبية وتجيّرها لتحقيق غاية أمانيها وهدفها القديم المعلن؛ إسقاط النظام.. فمتلازمات الأسعار، نقص الخدمات، تقلص القوة الشرائية وانعدام السيولة، ظلت على الدوام تمثل الأجواء المثالية لطرح الاستفهام: هل ستلتقط القوى السياسية الواقفة على الرصيف قفاز المطالب وتصعّد معركتها مع النظام لتديرها من فوق أسنة رماح المعاناة؟! { من وجهة نظر البعض تبدو المحاولة يائسة، فالشارع الذي أخرجته أزمة المياه ليهتف بأعلى صوته (الشعب يريد موية الشراب) هو ذات الشارع الذي تجاهل دعوات المعارضة من قبل بالخروج، ربما لأن المسألة السياسية لم تلامس عصب همومه المعيشية، ولكن يظل سيناريو الساعات الأخيرة هو الحد الفاصل بين علاقة المواطن بالحكومة، تلك العلاقة التي تشبه لعبة شد الأطراف، وهو الواقع الذي اعترف به والي الخرطوم، الدكتور عبد الرحمن الخضر؛ عندما أقر بأن ارتفاع أسعار السلع جاء نتيجة لانعكاس القرارات السياسية على الاقتصاد، لافتاً إلى ضرورة حلها قبل أن ينهار الاقتصاد السوداني، مما يشير إلى تفاقم الأزمة بل واحتمالية أن ينفجر الشارع بصورة يصعب تداركها، لا سيما أنه من المعروف أن المواطنين في شهر رمضان يتجمعون في الشوارع (بصوانيهم) بشكل متعارف عليه، فضلاً عن أن مستوى الغضب والضيق هو أصلاً سيرتفع بسبب درجات الحرارة فكيف إذا بلغت بهم تلك المخاطر مبلغها؟! { وزيرة الدولة بالإعلام سناء حمد، التي استنطقناها حول المسألة قالت ل(الأهرام اليوم): «ليس للأحزاب أي دور في خروج المواطنين للشارع في الفترة الأخيرة خصوصا في أزمة المياه، فالأزمة كانت حالة عطش حقيقية لا تُحتمل خرج بموجبها الناس وهو خروج مبرر». { سناء عبّرت عن دهشتها لما يثار حول الغلاء..!! وقالت إن الأسعار لم تزد بخلاف السكر الذي يتذبذب بفعل المضاربات، فالسودانيون تعودوا على الجوال الكبير بينما سياسة الحكومة تريد أن تقضي على التهريب بالقضاء عليه، وطرح العبوات الصغيرة لتجنب العوز، وأشارت سناء إلى أن الغلاء يضرب العالم كله ومن المتوقع أن تنهار المؤسسات الاقتصادية الكبرى في أمريكا وبريطانيا والصين وحتى مصر التي تعتمد على العون الخارجي، بينما السودان ليست لديه ودائع ومستندات، واصفة الدعم الذي دفعت به الحكومة للصومال وإثيوبيا بأنه يجيء عطفاً على المجاعة التي ضربت تلك المناطق، ودفعاً لموجة نزوح متوقعة جراءها، وهو دعم تمثل في الذرة ومئة ألف دولار للصومال حتى يتم القضاء على الكارثة في موضعها. الوزيرة اعتبرت في حديثها ل(الأهرام اليوم) أن السودان هو الدولة الوحيدة التي تتمتع بفائض غذاء سوف يجنبها المجاعة. { في السياق اعتبرت سناء أن ما يشغل بالهم حالياً هو تنفيذ البرنامج الاقتصادي، نافيةً انشغالهم بالتشكيلة الوزارية الجديدة ولا الحوار مع المعارضة. والحال كذلك - تمضي وزيرة الإعلام في القول - فإنه لو لم تكن ثمة ترتيبات لارتفع سعر البترول مثلما يحدث في كينيا وإريتريا، والدليل على ذلك استقرار أسعار الكهرباء والاتصالات، وأضافت وزيرة الدولة بالإعلام أن مستوى التمايز بين الناس هو شيء رباني ولذلك هناك من يستطيع أن يشتري السلع ومن لا يستطيع، وإذا قرر أي مواطن أن ينتحر لأنه جوعان فلينتحر ثم استدركت قائلة: «ما في زول في السودان مات بالجوع»..!! قبل أن تسترسل: «ليس مطلوبا من الحكومة أن تضع (كرتونة) في باب كل بيت، وإنما الحكومة تعمل بسياسة الدعم غير المباشر عبر أجهزتها المعروفة؛ ديوان الزكاة، وزارة الرعاية والضمان الاجتماعي، والبنوك المتخصصة». { وفي ما يتعلق بإخراج إقالة مدير مياه الخرطوم وصفت سناء تلك الحالة بأنها مؤشر حضاري وقالت إن الرجل شعر بالإخفاق وقدم استقالته وقبلها الوالي، ولو لم تفعل الحكومة ذلك لكانت هناك مشكلة. رافضة في ذات الوقت أن يتقدم والي الخرطوم باستقالته أو أن تُجبر الحكومة على ذلك لأن الإخفاق يتعلق بمرفق تم احتواؤه بمجرد أن ذهب الشخص المعني، وأضافت أن أية أزمة تحدث في أي قطاع على المدير أن يتحمل المسؤولية الأخلاقية، مؤكدة على أنه ملمح من ملامح الجمهورية الثانية أن من يخفق في موقعه ويتضرر منه الناس سوف يقال، وزادت بأن الحكومة ليست معصومة من الخطأ وعلى الإعلام أن لا يتعامل معها بسوء ظن، وختمت حديثها بأن أي مواطن يداس له على طرف من حقه أن يصرخ ويقول (آه)..!! وبالتالي فأي تظاهر ينتج عن ظلم للمواطنين فهو مقبول لديهم بخلاف التظاهرات التي تتحرك بأجندة سياسية، ولذلك فإن الحكومة ستحتمل الصفعة من المواطنين لأنها صفعة مبررة، وقالت إن التظاهر عمل مشروع إذا استوفى الشروط الموضوعية، وأشارت إلى أن أي مسؤول لا يحتمل رد فعل المواطن على سياساته إذا تضرر منها عليه أن يتنحى فوراً. { في السياق تبرز وجهة نظر أخرى تبدو أكثر تشاؤماً، وتضع مجموعة من السيناريوهات موضع التساؤل والقلق، حيث يقول الخبير الاقتصادي والمحلل السياسي الدكتور حسن ساتي إن أسباب الغلاء يتم التكريس لها بموجب البرنامج الاقتصادي لجهة أن الحكومة تستورد كل السلع حتى الجبنة والطماطم والدقيق والذرة والحليب وهي عليها جمارك بالإضافة إلى أن الإنتاج المحلي منهار تماما بحيث نستورد مليون طن من السكر والحكومة تتعامل مع البترول كمصدر إيراد وليس مصدر طاقة مع أنه مدخل أساس في الإنتاج الزراعي والصناعي. ساتي أضاف في إفادته ل(الأهرام اليوم) أن المواطن لا تهمه طريقة تعبئة جوال السكر وإنما يهمه سعر الرطل بكم؟! وشدد على أن الغلاء سوف يستمر وأن الثورة القادمة ستكون ثورة جوعى، فالمواطن سيجوع لأنه لا يمتلك المال للشراء وبالتالي يكون أمامه خياران: إما أن يثور أو يموت..!! وحذر ساتي من ثورة الجوعى التي ستدمر كل شيء ولن تميز بين الحكومة والدولة باعتبار أن الجوع كافر، مؤكداً أن المواطنين مستعدون للعودة إلى الصفوف التي سبقت ثورة الإنقاذ إذا كانوا سوف يتحصلون على السكر والرغيف والبترول بنفس ذلك السعر بالمقارنة بين الأوزان، معتبرا أن تفاقم الأوضاع الاقتصادية سوف يكون (القشة التي ستقصم ظهر البعير)، والأخطر من ذلك أن نسبة البطالة بلغت (60%) وهناك (95%) من الشعب السوداني تحت خط الفقر، وهؤلاء هم وقود أي فوضى سوف تحدث..!! { وردا على سؤال بخصوص احتمال أن تنتقل المجاعة من القرن الأفريقي إلى السودان قال ساتي إن «مجاعتنا أخطر فالصومال ليس عنده حكومة ولا إثيوبيا عندها إمكانيات مثلنا، بينما الوضع هنا سيفوق حجم الكارثة، وفي حالة تأخر الخريف أو فشله سوف يفشل الموسم الزراعي، وسوف ينتهي الاحتياطي الغذائي»، ووصف عدم اكتراث الحكومة بذلك بالاستهتار، ومضى إلى أن الشارع سيتحرك لوحده ولا يحتاج إلى قوى معارضة، وحمل المسؤولية للحكومة لأنها لم تحارب الفساد ولم تخفض الصرف عليها، وأكد على أن نسبة (الشحادين) سترتفع جداً، وستتسع الفجوة بين الحكومة والشعب وهي بلا شك سمات الجمهورية الثانية- على حد قوله. { هذه الصورة خارج إطارها ترسم أكثر من معنى وتفجر جملة من الهواجس التي غالباً ما ستتحول إلى (كوابيس) إذا استمرت الأحوال بهذا الضغط على المواطنين، وربما تنجح ذروة الوقائع في رمضان في إعادة صياغة مفاصلة الإسلاميين الشهيرة إلى نمط جديد من المفاصلة بين الحزب الحاكم والمحكومين في حالة فشل الأول في تدارك ما يمكن تداركه، غير أن التوقعات بحدوث مجاعة التي أصبحت تعرف مجازاً (بالفجوة الغذائية) تظل قائمة بحسب تلك المؤشرات سالفة الذكر، ولكن هل ستكون أشبه بالأزمة التي ضربت السودان في العام (1888) ووصفت بأنها أسوأ مجاعة في التاريخ (سنة ستة)، أم أنها ستكون أقل وطأة مثلما حدث في ثمانينيات القرن الماضي؟ أم أن الخرطوم استوعبت الدرس القديم وتعلمت التعامل مع مكر التاريخ؟!