يبدو أن الأدب السوداني سوف يعلن عن نفسه بقوة خلال الشهور المقبلة، فبعد أيام من وصول رواية «صائد اليرقات» للكاتب السوداني أمير تاج السر إلى اللائحة القصيرة لجائزة البوكر للرواية العربية لهذا العام، أصدرت دار ميريت القاهرية، أخيراً رواية «الكونج» للكاتب حمور زيادة، وهو كاتب شاب ينتمي إلى نفس الجيل الذي يضم معه القاص عبد الحميد البرنس والكاتبة رانيا مأمون، وهما من الأصوات المتميزة في جيل الكتابة السودانية الجديدة. وقبل روايته الجديدة «الكونج» أصدر زيادة مجموعة قصصية عن دار الأحمدي بالقاهرة تحت عنوان: «سيرة أم درمانية» 2008م، وهو صحفي وناشط سياسي شغل منصب رئيس القسم الثقافي بجريدة الأخبار السودانية، وتكشف روايته عن مهارات لافتة للنظر في السرد الروائي، وتدور أحداثها في قرية تقع في شمال السودان، حيث نجد أنفسنا أمام جريمة قتل السيدة شامة التي ترضى بسلوك ابنتها «رضوة» وهي تواعد عشيقها في بيت زوجها «السر بلة»، لكن متقصي الأثر «بكري» ينجح في الوصول إلى المتهم بقتلها ونكتشف أنه «علي صالح» عشيق ابنتها. وتنتهي الرواية مع إحالة المتهم إلى المحاكمة في المدينة، ولكن من دون أن نعرف المصير الذي آل إليه ولا نقف على الأسباب التي دفعته لارتكاب الجريمة التي تبقى في حدود «الموقف الوجودي» ولا يمكن ردها لدوافع جريمة الشرف الشائعة في مجتمع قرية «الكونج». وفي طريقه للكشف عن المتهم يطوف الكاتب مع القارئ داخل نفوس أبناء القرية، ويستعرض خلفياتهم الاجتماعية ليكشف دواخلهم ومشاكلهم وصراعاتهم الداخلية، فمن بينهم الأستاذ الجامعي القادم من بلاد العرب والجزار المصري الباحث عن فرص عمل ودفء الجماعة، ورجل الشرطة «عبد الكريم» المصاب بعقد نقص كثيرة وكذلك «ابتسام» المعلمة الغريبة التي فتنت الرجال وقادت «إبراهيم نقد» إلى فقد البصيرة وابتدع أهل القرية أسطورة عن «امرأة الجبل» لاخفاء فضائحها. ويسوق الكاتب القارئ إلى أعماق شخوصه ليبين كيف يتماهى كل فرد منهم مع نواقصه وسلبياته، وبطريقة تشير إلى «فضاء التواطؤ» الذي يحتمون فيه باسم التقاليد لكي لا تمس صورة القرية أمام القرى الأخرى المحيطة بها والغرباء الذين يقتحمون عالمها مثل المدرس «معاوية يس» فلا يجد بينهم حكاية ترضي شغفه بالتلصص على «الكونج»، فلا ينال إلا حكايات تعيد إنتاج «بذرة الخطيئة» التي زرعتها المعلمة الغريبة ابتسام، الأمر الذي يؤكد له أن «الحكايات تأكل نفسها حتى تذبل». وعلى الرغم من اعتماد الكاتب على حدث تقليدي وهو «جريمة القتل» التي يكشف معالمها من اللحظات الأولى فإنه لا يكتب رواية جريمة بالمعنى الشائع. إذ تبقى مجرد حجر زاوية يحكم مسارات السرد وإيقاعاته. ومع تتابع فصول العمل المرقمة باستثناء الفصل الأول والأخير نتعرف على قرية معلقة، لها زمانها الخاص، المفارق بصورة أو بأخرى لزماننا المعاصر، فهي قرية تعمل ألف حساب لرجال السلطة سواء كانوا رجال الشرطة أم معلمي المدرسة، إلا أن بنيتها الثقافية والاجتماعية تعطي السلطة الأكبر للأعراف والتقاليد، وهي بذلك لا تختلف كثيراً عن بنى مجتمعات الثقافة البدائية (Primitive Culture) المنشغلة بالطقس وأمور السحر وممارسات رجال الدين الشعبي أو «الواوريق» كما تشير اليهم الرواية في كشفها عن قرية تؤمن بالأساطير التي تسهم في تسيير الكثير من تفاصيل الحياة، وتعين على تحمل قسوتها ويعتمد الكاتب بصورة رئيسية على أسطورة «عودة الموتى» الأحياء وهي أسطورة شائعة لدى هذا النوع من المجتمعات وجرى اعتمادها كثيمة رئيسة لأعمال إبداعية كثيرة، وهي هنا تعطي للكاتب فرصة بناء عوالم غرائبية مغرقة في محليتها. ويغذى هذا الإحساس إصراره على السرد بأسلوب شفاهي هو ابن ثقافة هذه المجتمعات وأقرب للحكي كما مارسه القاص المصري الراحل يحيى الطاهر عبد الله الحكاء العظيم، ومن ثم يعتمد الكاتب على الراوي العليم الممسك، بخيوط الحدث، لكنه يتخلى طواعية عن هيمنته ويفسح المجال لبعض الشخوص لتعلن عن نفسها وعما تنشغل به، ويكتب حمور زيادة ذلك كله بلغة مقتصدة خالية من المجاز، سهلة التراكيب، تعمل على «أنسنة» الملامح المادية لعوالم قريته المعاقبة أو المهملة بفضل تفشي مختلف صور الفساد التي تنخر في عصب الدولة التي تبهت مؤسساتها، ويتضاءل حضور رجالها الذين تكشفهم لغة طيعة مطعمة بنبرة ساخرة يعتمدها الراوي وهو يقدم شخوصه على مسرح الأحداث، ثم يفارقها عند ممارسة أفعال كسر الإيهام وتوجيه خطابه «الوعظي» أحياناً إلى القراء ولكن من دون ترهل، الأمر الذي يستجلب للقارئ متعة حقيقية تمكنه من اكتشاف صوت مائز من أصوات السرد السوداني المعاصر.