قال لي بعض الشماليين الوحدويين إن وحدويتهم انتهت في يناير الماضي عندما صوّت الجنوبيون بأغلبية كاسحة في الاستفتاء لصالح الانفصال ثم تم تعميد هذه النزعة أو هذا الموقف الانفصالي الجديد ابتداءً من 9 يوليو الماضي تاريخ إعلان استقلال جمهورية جنوب السودان. وقالوا إن الكلام عن الوحدة الآن كلام في الزمن الضائع ولا قيمة له على امتداد المستقبل المرئي، فالحقيقة الماثلة على الأرض والتي تعترف بها كل دول العالم أن هناك الآن في السودان القديم دولتين مستقلتين لكل منهما عاصمتها وجيشها وعلمها ونشيدها الوطني وعملتها. وهو كلام مؤسف محزن لكنه صحيح وكان أحد كبار الزعماء الحزبيين قال إنه لم يحضر احتفالات الجنوبيين باستقلالهم يوليو الماضي في جوبا لأنه لا يؤمن بالانفصال وهذه وجهة نظر مقدرة ومفهومة، أما ما ليس مفهوماً ومن الصعب التعويل عليه فهو قوله إنه سوف يذهب إلى جوبا ويدعو للوحدة من هناك. ولقد يُسمح له بذلك لكنه احتمال ضعيف وفي حالة تحققه أي حالة السماح له بالدعوة للوحدة في جوبا وغيرها من مدن الجنوب فإن الاحتمال الأكبر هو أن يكون الحصاد صفراً. ذلك أننا إذا ما كنا ومعنا هذا الزعيم الحزبي الكبير فشلنا طوال عمرنا الوطني الذي بدأ مع الاستقلال منتصف الخمسينيات في أن نجعل الوحدة جاذبة ونحن نعيش في ظل دولة واحدة موحدة تمتد حدودها من حلفا إلى نمولي ومن الجنينة إلى بورتسودان، فكيف نستطيع أن نحقق هذه الوحدة ونحن نعيش في ظل دولتين مستقلتين تُحكم إحداهما من الخرطوم والأخرى من جوبا. والأفيد الآن هو تعزيز الوحدة الوطنية في كلتا الدولتين لأنها أحد أهم الشروط الواجب توافرها لتحقيق الاستقلال والمحافظة عليه وتعنينا بالدرجة الأولى الوحدة الوطنية داخل السودان الشمالي لكنه يعنينا أيضاً أن تتحقق هذه الوحدة الوطنية داخل جمهورية جنوب السودان ليصبح بلداً مستقراً آمناً، مما سوف تكون له فوائد ومزايا وآثار إيجابية علينا هنا في الشمال. إن تحقيق الوحدة الوطنية في أية دولة من الدول يستلزم الكثير ومنه المساواة المطلقة بين كافة الأعراق، وخلق الإحساس بأن البلد بلد الجميع لا فضل فيه لأحد على آخر، والحد من أية غلواء يمكن أن تنجرف إليها الأغلبية. والمحافظة على الوحدة الوطنية لا تتطلب إلغاء الهويات الجزئية داخل الوطن الواحد فمن الممكن استمرارها مع التركيز في نفس الوقت على القواسم المشتركة بين كل هوية والهويات الأخرى ويحدث ذلك كله تلقائياً ومن غير أية تدخلات حكومية. فالجميع يشعرون ويعرفون أن مصالحهم الكبرى والعليا تكمن في تدعيم وتمتين هذه القواسم المشتركة التي ترجّح إمكانية استمرارهم شعباً واحداً رغم بعض التباينات الكامنة فيه في دولة واحدة. وعاش السودان بلداً واحداً، الشمالي طبعاً مع أصدق أمنيات التوفيق لجمهورية جنوب السودان.