قضيت معظم طفولتي متمرغة في تراب الشارع الذي يضم بيوت الحلة، أقلبه بين يدي أحلامي بيوتاً صغيرة تسع كل أهلنا وأصحابنا وأولادنا القادمين. ونتراشقه بين شعراتنا القصيرة تغمر ذراته فروته، فتكسبنا بعد وقت قصير إما توبيخة حادة وإما (دقة) خفيفة أو (قرصة) من الأمهات،لا نخاف حتى هذه العواقب المستمرة طوال طفولتنا بلا إبداع خلاق فيها! ولا في مقالبنا نحن ذاتنا، لا نخاف الغرباء الذين ينفحوننا بالحلوى البريئة وأحياناً بالنهرة في ذات مقام الحلوى - بريئة - ! ننتظر وقت قيلولة أولياء الأمر كي نسرح بلا رقيب في الخور والكوش القريبة، نلقط رزق أحلامنا منها، لتكون سيارات وبيوت لعاب... وألم يكن هذا الحديث ذاته قضية اغتصاب طفلة يرشح من بين ثقوب ذاكرتي الخربة لأكون مثل جيل يسبقنا بأن زمان كان أحلى؟ ما الذي حلّ بنا كمجتمع؟ ما عاد يهمه أمر دين ولا اجتماع ولا صحة؟ لا يخاف عاقبة أخلاقية ولا عقوبة جنائية. ما الذي غيرنا هكذا جداً وصار الأطفال في حياتنا هم الطعم والفريسة في ذات الوقت! لا نمنحهم الحلوى إلا بغرض حقير، لا ننهرهم إلا لإسكاتهم عن قول الحقيقة والإخبار عن المعتدي قريب أو بعيد.؟ ماذا نحتاج أكثر من قدرة المجرمين على التستر داخل المجتمع نفسه والتظاهر بالبحث عن الفتاة المفقودة أو الابن الضال؟ ضلالاً ما بعده ضلال، وأذى ما أحر منه نار، كل يوم بمعدل ثابت، يغتصب طفل (ذكر / أنثى) في كل جهة من السودان، إما سكت الناس عنه درءاً لفضيحة يعتقدون أنها ستطال الطفل قبل المجرم، وإما حكم عليه بالسجن حتى وإن كان مشدداً أو مؤبداً في حال نجاة الضحية. وبالإعدام في حال وفاة الضحية. حتى في هذا الشهر العظيم لم تسلم ثلاث ضحايا من الاغتصاب - واحدة فقط نجت واثنتان توفيتا إلى رحمة الله - وهيئة علماء السودان، مجلس الإفتاء وكل فقهاء البرامج المباشرة والمسجلة والهواتف النقالة والأطباء والنشطاء والقضاة إلخ...لا يخرجون بتصريح، أو فتوى تجعل من هذه القضية قضية رأي عام بحق، وتصدر مقابل إدانتها لانتهاك واحدة من حقوق الحياة في كل مجتمع ليس بالضرورة أن يكون إسلامياً، عقوبة محددة وحازمة وحادة جداً، تخيف المغتصبين وتجعلهم يفكرون ألف ألف مرة قبل أن يغروا طفلة بممارسة الجنس معها - سبحان الله، كيف أملك قدرة كتابة جنس مقابل طفلة؟! - تجعل المجتمع يقف ليراجع نفسه ويحدد أولوياته وأخلاقياته التي تناثرت بين شعيرات الثراء الحرام والفساد والانهيار، لكن بلا دَقة ولا قرصة ولا حتى توبيخة! بايخة جداً حركة الاستغلال الصحفي لخبر اغتصاب طفلة ووضعه بالخط الأحمر العريض ثم تناول الخبر صغيراً جداً وقصيراً على جانب الصفحة، ثم في انتظار الحكم لا متابعة ولا قراءة لاحقة للخبر ولا للحالة النفسية والاجتماعية للأسرة أو الضحية، ولا التحقيق بسؤال: (بأي ذنبٍ اغتصبت، فقُتلت؟)، بأي لسان نصرح ونطالب بتصليح الشوارع والخيران والبنايات، ورغباتنا تتدنى لتجامع طفلة؟!