قرنق هو مهندس الصراع بين الهامش والمركز.. وقد استغل انعدام التنمية المتوازنة بين الأقاليم المختلفة. بنى قرنق استراتيجيته لتحقيق هدفه غير المعلن وهو انفصال الجنوب، على هذه الثغرة التي استغلها بذكاء واستطاع عن طريقها أن يستقطب لحركته أعداداً كبيرة من أبناء الأقاليم الشمالية التي لم تحظ بقدر معقول من التنمية. لقد استطاع قرنق بذكائه أن يستغل كذلك رغبة كل الأحزاب المعارضة للحكومة والطامعة في العودة السريعة لكراسي السلطة.. هذه الأحزاب التي أعماها حقدها وكراهيتها للحكومة، حيث قادها كل ذلك للتعاون والوقوع في أحضان الحركة الشعبية، كما شهدنا موسم هجرة الأحزاب السياسية إلى قرنق بقصد توقيع معاهدات وتحالفات تكتيكية نكاية في نظام الحكم القائم. هكذا استطاع قرنق استغلال صراع الهامش والمركز لتهديد كيان الدولة وتدمير المؤسسة السياسية السودانية ليقيم على أنقاضها حركته الشعبية بكل سهولة ويسر، تحت ستار المناطق المهمشة التي تضمنها المنفستو العام للحركة الشعبية الذي يوضح البرنامج السياسي للحركة. استطاع قرنق في إطار توسيع نشاطه العسكري بالولايات الشمالية فتح جبهة العمليات الأولى في منطقة جنوب كردفان باستقطابه لبعض أبناء جبال النوبة ثم قام بفتح جبهة عملياته الثانية في جنوب النيل الأزرق باستقطابه لبعض أبناء الأنقسنا، كما قام بتوسيع نشاطه العسكري إلى شرق السودان وإلى دارفور التي سير لها حملة بولاد العسكرية المشهورة. لقد استغل قرنق إذاعته المحلية التي كانت تبث رسالتها الإعلامية من دولة مجاورة وعبر خطابه الإعلامي الوحدوي استطاع نقل أخبار نشاطه العسكري إلى العالم الخارجي والداخلي مما مكنه من أن يكسب دعماً كبيراً دولياً وإقليمياً وداخلياً في وقت قصير بتدويل قضيته التي وصفها بأنها قضية كل المهمشين وأنها قضية قومية وقطرية تسعى لتحقيق مصلحة كل أهل السودان حيث رفع شعار مشروع «السودان الجديد» الذي هو في حقيقته مشروع صهيوني لتمزيق وتفتيت وحدة البلاد، كما برهنت على ذلك حالة العداء الأمريكي السافر للسودان التي يقودها اللوبي اليهودي. من المؤسف أن يتحول الصراع بين الأقاليم والمركز إلى صراع عسكري بدلاً من أن يكون صراعاً سياسياً للمطالبة بالتنمية المتوازنة والمشاركة في قسمة السلطة والثروة والمشاركة في اتخاذ القرار السياسي للدولة. من الملاحظ أن صراع قرنق مع المركز بدأ عسكرياً منذ الوهلة الأولى لإعلان تمرده في 16مايو 1983م، حيث إنه لم يستجب إلى كل دعوات الحلول السياسية التي طرحتها الحكومات الوطنية المتعاقبة وهذا مؤشر قوي على أن الصراع بين الأقاليم والمركز تغذيه قوى خارجية لتحقيق أجندتها الخاصة. المعالجات السياسية التي بذلت لم تنجح لأنها لم تدرك حقيقة الصراع كما رسمتها القوى الأجنبية وهي أن يكون هذا الصراع صراعاً مسلحاً لتفتيت وحدة البلاد بما يضمن لهذه القوى الخارجية التدخل في الشأن الداخلي تحت دعاوي حماية الأمن والسلم الدوليين، ولهذا نجد أن قرنق كان يرفض كل الحلول السياسية، حيث إنه كان يحضر بنفسه في آخر اللحظات لمنع وفده من التوقيع على ما تم الاتفاق عليه كما حدث في بعض مفاوضات السلام. الآن حركات التمرد بجنوب كردفان وجنوب النيل الأزرق ودارفور تسير على ذات النهج الذي رسمته القوى الأجنبية التي تدعم هذه الحركات. أهم السلبيات التي أفرزها هذا النهج تدمير المؤسسة السياسية السودانية التي أصبحت تحتل مكانها حركات التمرد التي سيطرت على قواعها ومناطق نفوذها. هذا يعني باختصار شديد أن البديل القادم سيكون هو حركات التمرد وليس الأحزاب السياسية التي فقدت قواعدها. لا شك أن هذه الصورة مقلوبة تحتاج للتصحيح والتعديل ولا يمكن أن يحدث ذلك إلا بحركة سياسية نشطة وفعالة وواسعة تشارك فيها كل الأحزاب السياسية لتدعم عملاً عسكرياً ناجحاً يشكل مفتاحاً لحلول سياسية جذرية تضع حداً للصراع بين الأقاليم والمركز حتى لا يتحول هذا الصراع إلى حرب استنزاف جديدة. هذا الواقع يحتم على أحزاب المعارضة والحكومة التعاون لحسم ظاهرة حركات التمرد الدخيلة على الحياة السياسية السودانية. إن الديمقراطية التي ينشدها الجميع لا يمكن أن تمارس إلا عبر الأحزاب السياسية الوطنية ولا يمكن لها أن تمارس عبر حركات التمرد المسلحة التي تناسلت وتكاثرت حتى أصبحت أكثر من أربعين حركة تمرد تحمل السلاح بدارفور وهذا مؤشر قوي على رغبة تلك الحركات في تحقيق مصالح شخصية وليس مصالح قومية أو مصالح أقاليمهم التي يدعون بأنها مهمشة. إن القوة العسكرية في كل دول العالم عادة ما تكون تحت إمرة القيادة السياسية العليا للدولة وليست وصية عليها أو على الشعب كما يجري اليوم في السودان، حيث أصبحت حركات التمرد وصية على الأقاليم ونداً شرساً للقيادة السياسية العليا للدولة ينازعها في ممارسة سلطاتها وصلاحياتها التي كفلها لها الدستور. أزمة الصراع بين الأقاليم والمركز أزمة مدبرة بواسطة القوى الأجنبية وأصبحت هذه الأزمة اليوم مهدداً رئيسياً للأمن القومي السوداني، ولهذا فإن معالجتها تتطلب موقفاً قومياً موحداً تشارك فيه كل مؤسسات الدولة ومراكز البحوث والدراسات الاستراتيجية والجامعات وكل قطاعات المجتمع المدني ونقاباته واتحاداته وكل أفراد الشعب السوداني. إن عودة الحياة السياسية السودانية التي دمرتها الحركة الشعبية وحركات التمرد ليست أمراً ميسوراً، حيث إن تلك العودة تتطلب جهوداً كبيرة وتضحيات جساماً من كل ألوان الطيف السياسي بالبلاد، وهنا لا بد أن تتناسى الأحزاب السياسية جراحاتها وتغلب المصلحة القومية العليا للبلاد على المصالح الحزبية الضيقة، وعلى المؤتمر الوطني أن يتعاون مع الجميع من أجل سحب البساط من تحت أقدام حركات التمرد التي استباحت حرمة البلاد ودمرت الأحزاب السياسية السودانية. إن ظاهرة المليشيات الحزبية ثقافة جديدة لم تألفها الحياة السياسية السودانية من قبل ولهذا ينبغي حسمها تفادياً للصوملة. لا بد من وضع ميثاق عمل وطني يحظر إنشاء وتكوين أي مليشيات حزبية وحصر حمل السلاح فقط على أفراد القوات المسلحة والأجهزة الأمنية. الشعب السوداني بطبيعته سياسي وهو شعب منفتح على العالم ويعشق الحرية والديمقراطية ويرفض الشمولية التي عكست سلبياتها ثورة التغيير العربي التي تجري أحداثها حالياً. خلاصة القول أن المرحلة تتطلب وقفة صلبة وموحدة من كل أفراد الشعب السوداني أمام ظاهرة حركات التمرد التي انتهجت الصراع المسلح وغيبت أسلوب الحوار لمعالجة القضايا القومية والوطنية. السودان مستهدف في ثرواته وموارده الضخمة وفي موقعه الجيوبولتيكي وفي مساحته الواسعة. الصراع المسلح الذي تقوده حركات التمرد والمدعوم خارجياً يحرمنا من الاستفادة من خيرات بلادنا. ختاماً لقد أصبحت حركات التمرد العميلة مهدداً داخلياً خطيراً للأمن القومي السوداني وللحفاظ على ما تبقى من السودان ولضمان العودة السريعة للحياة السياسية لأحزابنا الوطنية ينبغي بذل كل الجهود للحسم العسكري لظاهرة حركات التمرد حتى لا يشهد السودان حرب استنزاف جديدة تقعده عن استكمال بناء النهضة الشاملة. وبالله التوفيق فريق أول ركن / زمالة كلية الدفاع المدني أكاديمية نميري العسكرية العليا